في لحظة واحدة قالت للجنة: لا! .. كتبت: نداء يونس

09.03.2016 05:21 PM

في لحظة واحدة قالت للجنة: لا، وأدارات ظهرها.

تقول الرواية التوراتية بأن الحمل والإنجاب كانا عقابها، فيما مجَّدت الأسطورة فعل الإنجاب، وأعلته، كونه انعكاس لفعل الخالق، أو مرآة لفعله الإسثثنائي.

إذا ما تغاضينا قليلا عن الجدل الفقهي حول صحة الحديث التوراتي والإسلامي عن خلق الله آدم على صورته، واعتمادا على أن حواء هي النفس الأولى التي خُلق منها آدم، و"خلق منها زوجها"، كما أوضح العلامة عدنان ابراهيم، و أنه خلقهن "من أنفسكم"، أي من نفس النوع للتجانس والمماثلة، وليس من جسدكم، أي من البدن، كما قطع الأصفهاني والشيخ محمد عبده، وغيرهما، فإن سؤالا يطرح نفسه بلا مواربة حول تطابق فكرة صورة الخالق، ليس فقط مع وظيفة المرأة البيولوجية، بل ومع تكوينها النفسي الذي يجنح نحو التجريب والمعرفة.
بشكل ممنهج، تم تطويع ووأد مسألة أن المرأة هي المخلوق الأول، دينيا وتاريخيا وفنيا وأدبيا، لما يترتب على ذلك من استتباع الرجل للمرأة، والتي قامت على نقيضها التفسيرات الدينية في الأديان الثلاثة، وغالب الإجتهادات الفقهية والفنية والأدبية، وخلافا لقليل من الاصوات التي يمكن بكل حال البناء عليها لتجديد الخطاب الديني والفقهي والفكري، والنأي عن أحادية الفكر الذي يبني على مكتسبات عدة حازها الرجل خلال تاريخ طويل من التغييب الذي أمعن في التبشير بتبعية المرأة للرجل كونها كما أسلف، خلقت منه أو من ضلع أعوج فيه أو أنها، بحال أخرى، استلت منه، الأمر الذي يخالف المنطق، لمن يعتمد منهج العقل، ويخالفه النص القرآني، لمن يعتمد المنهج الديني. إن مراجعة سريعة لقوانين الأحوال الشخصية تكشف عوارا وتمييزا سلبيا مقونناً تجاه النساء في كثير من الدول العربية، مثلا، ناهيك عن منظومة القيم الاجتماعية التي تلبس لبوس الأديان السماوية الثلاثة.

عملت الاسطورة التوراتية على كي الوعي الثقافي والفكري للانسان الأول، وإنسان عصر النهضة، ما أثر على رساميها ومفكريها مثل مايكل انجلو في لوحتة المشهورة "خلق آدم، في بداية القرن السادس عشر والمعلقة في سقف كنيسة السيستيان بالفاتيكان ، وقبل ذلك، إنسلت الى المفسرين المسلمين، وكانت جلية في تفسيرهم لمسألة الخلق في الإسلام، والتي بنيت على ضوء الكثير مما تسرب من أحبار اليهود مثل ابن سلام وغيره إلى الصحابة والتابعين، ومنهم أبو هريرة، وشكل ذلك كله أرضية تم استبطانها للتفسير والإجتهاد، وإلى اليوم، وشكلت منطق أفكار كثير من العلماء، كما صارت لغة العامة ومرجعيتهم الفكرية في التعامل مع المرأة.

تقوم الأسطورة التوراتية، وما تأثر بها من فكر، وما بني عليها، على الإشادة الواضحة الى طاعة آدم للخالق، تبعية المصنوع الى الصانع، أفلا يستوجب الايمان بهذه الاسطورة، أيضا، وبشكلها الاستتباعي هذا، الدفع باتجاه تأكيد تبعية آدم ذاته بالمحصلة لمن انجبه أو خلقه وهو المرأة؟ هل هذا التناقض ورفض التبعية للمرأة اصل لكل التناقضات اللاحقة التي بنيت عليها فكرة العقاب والانتقام بدل الاستئناس، والتي قامت على التغاضي الواضح والممنهج عن حقيقة ان آدم هو بداية الغواية، اذ أنه من وسوس اليه الشيطان أولا ومباشرة، "فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم"؟ 

موروثات اجتماعية ودينية وثقافية طويلة ساهمت باغتيال طبيعة المرأة الباحثة المتمردة التي تحمل النار المقدسة. ففي العصور الوسطى، ساد ما اتفق على تسميته بالنموذج الاستتباعي، كما أوضح العلامة عدنان إبراهيم، ويقوم هذا المنهج على أساس أن الرجل هو الراس وهي البدن، هو السيد وهي العبد، كخلاصة لنقاش عقدت لأجله عدة مؤتمرات حول هل المرأة ذات روح أم أنها بلا روح أصلا، علما بأن البعض ادعى ان روحها حيوانية. العرب في جاهليتهم آمنوا بأن أرواح النساء شيطانية وبأنهن مدنسات، وكانت حيواتهن غالبا على المحك. فيما يعتبر اليهود جسد المرأة نجسا، فأثناء العلاقة معها والتي تتم من خلال ثقب في قطعة قماش كبيرة، تتم العملية الجنسية، ، الأمر الذي اتبعته الكنيسة لاحقا في العصور الوسطى، حيث  تمت العملية من خلال فتحة في صليب على قطعة قماش. وفي الفكر التلمودي، لم يقتصر اعتبارها نجسة على العلاقة الجنسية معها، بل اعتبر جسدها كله واجب الاخفاء، فاخترع الفكر التلمودي الشادور أو النقاب الذي يغطي وجه المرأة و بالمحصلة، جسدها كاملا، ومنه تسرب الى غلاة المتشددين من المسلمين تطبيقا. واستتبع كل ذلك إنكار لحقوق المرأة الجسدية والنفسية والحقوقية والوجودية والجنسية وحقها في تقرير مصيرها، بل واتباعها بالكامل لإرادة الرجل، فكانت جزءا من التركة يتم تقسيمها، وتم تشريع ختان الفتيات في دول تعتبر أنها اسلامية تحكمت بشكل فاضح بكل ما يتعلق بالمرأة من قرار واتزان عقلي ومظهر وادعاء الحاجة الى الوصاية عليها، وميزت سلبا تجاهها فيما يتعلق بتطبيق العقوبات.

هل أحتاج الى مناسبة لأقول بأن قصة التفاحة، رغم أنها توراتية، تعجبني وتثير غروري الأنثوي إلى أبعد مدى ممكن، وأن آدم كان بداية الوسوسة أمر لا يعنيني، كما لا تعنيني أيضا محاولات البعض حمل العصا من المنتصف بتحميل الإثنين: آدم وحواء، المسؤولية المشتركة، ونفي التهمة عن المرأة كاملة. فهي، أي القصة التوراتية، ليست دليل إدانه من زاوية رؤية مختلفة، بل وسيلة تقدم شرحا عن المرأة يمكنه، إن فهم على حقيقته، أن يصيبها بغرور جميل، إذ أن هذه الرواية توضح سبب الخوف من الإجابات الواضحة لأسئلة جوهرية تتعلق بالمرأة وما تمثله من قيم الجرأة مقابل خوف الرجل، ورغبتها بالتغيير مقابل نكوصه واكتفائه بالحلول المباشرة، وحاجتها الطبيعية إلى الإكتشاف مقابل ركونه الى المعرفة التلقينية الجاهزة، فهناك فرق بين من تعلم الأسماء ومن تضحي لتدركها، ومن يستكين إلى ما لديه ومن تنزع روحها إلى التحليق والإكتشاف والتمرد على فكرة الخلود السلبي، بما تمتلكه من أدوات القلق الشرعي تجاه فعل الخلق، والحساسية تجاه مسألة الفلسفة، والرغبة بالتجريب الحر. فإذا نظرنا إلى الأسطورة من هذا الجانب، يتضح أن الله خلق المرأة على صورته، فيما سعى الرجل طوال تاريخ طويل من الطمس والإلغاء إلى "صناعة صورة رمزية تتماشي مع مكانتها ]التي أراد لها[ سواء في الأساطير أو القيم الأخلاقية أو الأديان أو التشريعات القديمة"، كما يؤكد الباحث محمد مقصيدي. واستنادا إلى ذلك، يمكننا أن نعيد قراءة تلك الأسطورة عن سارق النار: بروميثيوس، فمن الذي سرق النار المقدسة من شجرة الجنة ونزل بها إلى أبنائه البشر في الأرض، ونشر المعرفة، أنها حواء. رواية الأسطورة من زاوية ذكورية، ساهم في حمله تشويه ومحاولة إستلاب. بالمقابل القليل، اتجهت الحضارة المصرية إلى نسب فكرة الخلق لحواء/ ايزيس، وتأخرت كثيرا في التخلص من الأيقونة المؤنثة في الألوهية والحكم؟

تمت شخصنة النظام الجتماعي من خلال الأقوى جسديا، والقادر على الحماية، وعند الحديث عن النظام، سواءً كان سياسيا أم دينيا، فان استمراره يستوجب خلق أدوات تلتزم بالطاعة المطلقة، وإعتبار كل مخالف مرفوضا، بل عدوا. وإذا ما استلهمنا تحليل الإعلامي سلامة كيلة لحاجة الأنظمة أو الطبقات المسيطرة في كل بلد إلى العسكر وما يسمى بالأمن الداخلي، لخدمتها والحفاظ على مصالحها، وما يلزم لذلك من تطويع واستخدام "نظام التعليم والسيطرة الأيديولوجية، و"الدين"، والقضاء، ومن ثَمَّ الإعلام" لهذه الغايات، فان فهماً أشمل وأعمق لتلك النماذج النسوية التي ساهمت عبر التاريح في تطويع المرأة ومهاجمتها نيابة عن الرجل لحفظ مصالحه وامتيازاته التاريخية، تلك المربيات اللواتي لم يعدن من فئة المُجَهلات والبسيطات والساذجات والخائفات واللواتي يعملن على توريث تلك التنميطمات التي أراد الرجل/ السلطة أن ينقلها من جيل لآخر، ليحافظ على امتيازاته، بل أصبح جزء منهن يحملن شهادات عليا مثل الدكتوراه ويدرسن في معاهد الأزهر، إضافة الى المدارس والكليات، لخلق أجيال جديدة تؤمن أن كشف المرأة لذراعها أو شعرها او صوتها أو اعتراضها على الظلم خطايا كبرى. تلك النماذج التي تتلمذت على أيدي الرجال، وتعلمن كيف يخفن ما نار أغلبهن وقودها إن لم يلتزمن بوصفاتهم السحرية، والتي هدفت إلى إخضاعهن، بل وأصبحن ملوكيات أكثر من الملك ذاته.

الخطر الأكبر الذي تعمل تلك النسوة على تعميقه هو الإستمرار في عملية كيِّ وعي النساء وأعينهن، من خلال تدريبهن اليومي على الحكم على أنفسهن من خلال عيون الآخرين، الرجال تحديدا. فكيف يمكن أن تنجح امرأة باكتشاف ذاتها والتعبير عنها والتمتع بكيونة مستقلة، ما دامت لا تمتلك القدرة على النظر الى العالم من خلال عينيها هي؟ كيف تعود الى صورتها الأولى وهي تخاف من جسدها وصوتها وفكرها وتحاكم اعضاءها تبعا لمقدار تأثر الرجل بها؟. 

اذا، لنعد قراءة الأسطورة، وموروثاتنا الفكرية والعقائدية في ضوء الطبيعة الأولى.فالتمرد الذي قادته المرأة منذ خلقها، تم قمعه خلال عصور. والمطلع على تاريخ الإلغاء والإقصاء يستطيع أن يرى كيف تم إنكار قصة الأمازونيات اللواتي جرى في عروقهن دم حواء النقي، عند جمهرة من الدارسين، لأنهم رفضوا فكرة الإستتباع التي تمحورت حولها الأسطورة، كما يستطيع أن يتتبع كيفية اجتراح نصوص ليست من الدين، وتفسير النصوص الدينية في سياق إخضاع المرأة وإلغائها، وما بني على ذلك من مناهج تعليمية، وأنظمة اجتماعية وفكرية وثقافية. كما يمكن، لأغراض الإستدلال أيضا، التركيز على أن النساء الناحجات كن مجرد نماذج شاذة، وتتبع كيفية استهداف الأسطورة، وتحويل الآلهات الفينيقيات والكنعانيات والآشوريات والإغريقيات، اللواتي ارتبط بهن الخلق والخصب والحياة، تدريجيا إلى آلهة ذكور،  وصلت الى حد أن يقتل الإله مردوخ الإلهة تيامات ليسيطر على الكون، ويشهد موت الأسطورة.

عندما تبع آدم تمرد حواء، اكتشف فردوس الجسد، وقتل وقاتل لنيل لحظة عابرة منه، واكتشف الحياة التي نصر جميعا على عدم مغادرتها، فإذا كان الرجل ما زال مقتنعا بما يحلو له تسميته الخسارة الكبرى، والأمر لا يتعلق بخسارة الجنة، فما الذي سيخسره أكثر، لماذا يخاف ويصر على تغطية المرأة واقصائها وعزلها، واذا كان حقا يرفض فكرة الاستتباع لأصله و/أو ينتقم لقصة الخروج، فلماذا يصر على أن الرواية الدينية ستكافئه بالحوريات، وهن على ما وُصِفْنَ به: نساء أخريات جميلات.

هل خاف آدم في جنته ان تقول له حواء ابق وحدك، أريد أن انعم بتمردي، فتبعها، ثم خاف أن تطلب إليه أن يعود الى الجنة وحده، فهى لم تشبع بعد من تمردها، فجعلها تدفع ثمن خوفه من وحدته، وسماها عورة، واخترع القيود والعقود والنظم الإجتماعية والعقائدية.

يقول أديب روسي:"أنا أحب وأنا أذوب"، فكيف يمكن لقطعة ثلج أن تحب ولا تذوب؟ وبالتالي، فان كسب الشيء تقابله الخسارة. "الجنة/ الخلود" ليست المسألة، المسألة الحقيقية تكمن في قيمة الخسارة، فأي قيمة لخسارة الخلود الممل، وهو نفس المنطلق الذي بسببه خلق الله البشر، ولم يكتف بالكون والملائكة والهدوء السماوي. هناك إحساس، لدى الصانع، ويبدو أنه احساس فطري لدى النساء، بالكثير الذي ينتظر خلف اللحظة الراكدة وبحتمية التجريب، فكيف تجتزئ أسطرة الحكاية هذا الإحتمال من التفافها على الحكاية الأصل، والذي نجح على علاته الواضحة.

هل يخاف آدم الوحدة ويخاف المغامرة المعلنة، ويخشى قدرة حواء على أن تقول في أي وقت: لا للجنة، لا أريدها، دفعة واحدة؟

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير