حركة المعلمين واستحالة الزمن

01.03.2016 08:51 PM

 كتب مالك ريماوي:

كم سنحتاج من الرؤية حتى ندرك حقيقة صبر المعلمين ومعنى حركتهم؟

وحال المعلم الفلسطيني يقول:"لقد امتُحِنّا أنا والقدر بالتناوب" فبعد عشرة اضرابات فاشلة وثورة عمرها أكثر من نصف قرن وانتفاضتين ما زلت أحب فلسطين وأؤمن بها. في زمن تهاوت فيه الكثير من القوى والمعايير والقيم يخرج المعلمون بهذه القدرة التنظيمية والانفعالية، وبهذا الشكل الحضاري والمنظم، يخرجون للشارع ويقفون أمام بوابات المؤسسات الرسمية يحملون راية الوطن وحلمهم فقط، يجوبون شوارع المدينة تحت شعار واحد وهدف واحد ورؤية واحدة، وكأنهم يعلموننا أننا ما زلنا نملك مقومات الوحدة وعناصر الابداع وطاقة الفعل.

المعلمون يخرجون من صفوفهم التي التزموا فيها طويلا، يعلمون أبناء الوطن كيف يرسمون الخريطة ويؤثثونها بقيم الانتماء وأبجديات الفعل، لقد التزموا صفوفهم طوال المراحل السابقة، قدموا الوطن وأولوياته على حلمهم الشخصي وقوت أطفالهم، اليوم خرجوا إلى الشارع، لم يطرحوا فكرة التقسيم أو التخريب، لم يعتدوا على أحد، لم يعلنوا براءتهم من الوطن، لم يمسوا وحدة المجتمع، لقد سمعنا رجال الأمن الفلسطيني يشهدون أنهم لم يروا في حياتهم تحركا بهذا العدد وبهذا الشكل المنظم، وكيف أن المعلمين قد حافظوا على كل شيء: الممتلكات العامة، النظافة، مشاعر رجال الأمن، سلامة المرور، وحتى كرامة السلطة ورجالها.

مقابل ذلك لم يجد المعلمون من يسمع صوتهم، أو من يقدر حركتهم، معلمون خرجوا للشوارع لأجل هدف صغير، كرامتهم وحقهم في التمثيل النقابي والتطور المعيشي، هدف صغير يقود حركة كبيرة، حركة يمكنها أن تعلمنا كيف نتحاور وكيف نعبر عن أنفسنا وكيف نتوحد، وكيف نتحرك في الشارع وكيف نبني صيغة اجتماعية على أسس عصرية، ترفع من قدرتنا على مواجهة الاحتلال والتصدي لقوى الظلام الزاحف.

المعلمون من بيداغوجيا الصف إلى بيداغوجيا الشارع.
اذا كانت بيداغوجيا الصف مبنية على تحقيق أهداف المعرفة، فإن بيداغوجيا الشارع مبنية على أهداف البناء الاجتماعي، المعلمون يتحركون وينظمون أنفسهم تحت علم واحد ومطلب واحد وبقيادة تنبثق منهم، يقدمون نموذجا عجزنا عن تحقيقيه منذ فترة طويلة، المعلمون يقدمون أفقا لحركتنا السياسية وأفقا كبيرا لحريتنا: معلم حر ومتحرر هو وحده القادر على بناء طلاب أحرار.
معلمون منظمون نقابيا، محصنون حقوقيا، يحظون بالكرامة ويمنحون فرصة للمشاركة في بناء الوطن وثقافته، هذا ليس مطلبا تعليميا فقط، ولا منهجية حديثة في بناء المؤسسات، ولا مقاربة واعية للحركات المجتمعية، بل هو ضرورة سياسية للحفاظ على القضية الوطنية والبنية المجتمعية الفلسطينية وتحصينها بقوة تنوير وتثقيف علماني وطني بأفق قيمي إنساني.
لا يمكن للمعلمين أن يبقوا يعملون في زمن أصبح ماضيا، لن يبقوا خارج عصرهم، عصر الحق في تمثيل أنفسهم، عصر الحقوق وعصر الصوت الخاص، عصر الدور والريادة، من حقهم أن يكون لهم موقعهم ودورهم وصوتهم وممثليهم، هذا منطق التطور والتقدم.
لكن أن تتم مقاربة السلطة والمؤسسات وقوى المجتمع لهذه المطالب عبر الرفض أو التعامل مع حركتهم ومطلبهم بالطرق القديمة، وبأساليب الاستخفاف والتهديد والتشويه والقمع، فهذا يعني أن السلطة تخلق استحالة المستقبل، وعندها نقف في منطقة اللاتاريخ منطقة بين استحالة الماضي واستحالة المستقبل.

فكيف لمجتمع وسلطة فيه تعمل على اسكات معلمين يطالبون بمأسسة العمل المهني وترسيخ قيم المشاركة والعدالة، عبر أساليب قديمة، توظف التهديد والتشويه والتزييف، تستخدم الحواجز والاعتقالات الأمنية في وجه تحرك شعبي جماهيري، وتستخدم مكبرات أصوات المساجد في اسكات صوت المؤسسات النقابية والمهنية؟

لننظر بعمق لفعل الطرفين والحركتين ودلاتها المجتمعية والمستقبلية، المعلمون يتحركون عبر أشكال الاعتصام والتظاهر بشكل قانوني وعصري ويستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام والطرف الآخر يستخدم وسائل الاعتقال والحواجز العسكرية و(تهكير) المواقع التواصلية وأخيرا منابر المساجد ومكبرات صوتها، أن القوى السياسية التي تستخدم المضمون الأمني والشكل الديني في مواجهة حركة شعبية عصرية مؤسساتية هل تعرف معنى فعلها ودلالته المستقبلية ومدى خطورتها على المجتمع الذي تقوده؟ وأي شكل مستقبلي ترسم له؟

أن حركة المعلمين تمثل ليس حركة على الخطوط بل هي حركة نقل الخطوط وازاحتها، ازاحة الخطوط التي تحكمت في تحركاتنا الماضية وسببت الكثير من الفشل، فحركة المعلمين تمثل الانتاجية الابداعية التي تسبق زمانها، حركة تؤسس خاصية الفاعلية لمجتمع تاريخي، حركة تتضمن مبدأ بناء الحدث وتملك سلطة تحويله إلى تجربة بنائية مستقبلية، أنها تؤسس لخاصيتي الزمنية والفرادة معا.

على ملتقى زمنين: زمن النقابة أو زمن المسجد؟

لقد أدرك المعلمون ليس حاجتهم فقط بل دورهم أيضا، دورهم في التعليم المدرسي وفي البناء الاجتماعي، ذلك الاجتماعي الذي يبدأ ترتيبه من ترتيب البيت، فخرجوا ليرتبوا بيتهم الأول، اتحادهم ونقابتهم، المكان الضروري لكي يبنوا صوتهم ودورهم، وفهموا أنه لا يمكنهم البقاء في زمن مضى، فخرجوا ليؤسسوا للزمن القادم مكانه وحركته.
ولكن أن تبقى السلطة ومؤسساتها وأذرعها تقارب الأمر بلغة الماضي وأساليب الاستغفال والاستخفاف والمماطلة، فكأنها تقف في وجه المخاض وتحاول منع الولادة، تحاول منع ولادة المستقبل، أن هذا الفهم وما يترتب عنه من سلوك هو نوع من خلق استحالة المستقبل.

أن ما بين استحالة الماضي (استحالة العودة إلى ماض انتهى) واستحالة المستقبل (استحالة الذهاب إلى المشروع والصيغة التي يجب أن تؤسس) سيفضي إلى فجوة، فجوة خطرة مفتوحة على احتمالات ليست في صالح أحد إلا أعداء الوطن، فما يحدث يعني الدوران في حلقة مفرغة تكرر جروحنا وهزائمنا إلا أذا قررنا الدخول من النافذة التي يفتحا المعلمون إلى أزمنة أخرى وعادات أخرى
لا يجب أن نصل هذه الحالة بتاتا، حالة أن يصبح الماضي قد مضى، والمستقبل يمنع من القدوم وندخل في زمن الفجوة، فالفجوة حالة مفتوحة على كل الاحتمالات،. هي الفجوة التي يتسلل منها العنف والظلامية، أن الموقف من حركة المعلمين، هو في جوهره الموقف من المعرفة والثقافة، والموقف من المستقبل، فواقع المعلمين يحدد أي أطفال نؤسس للمستقبل وأي مستقبل نشيّد لحياتنا القادمة.
فالقضية ليست قضية مشاعر، ولا هي مساحة للفكر الرومانسي، ولن نهيب بالسلطة لإنصاف المعلمين لأسباب الرحمة أو كنوع من الفضيلة، بل هو مطلب وطني وجودي يصل مستوى الضرورة الوجودية، فالسلطة نفسها ومشروعها السياسي ووجودها الاجتماعي مرهون بطريقة تعاملها مع مثل هذه الحركات، فالمعلمون أكبر قاعدة شعبية وأكثرها تماسا مع الشارع ومع نبضه الطلابي، وهم صنّاع الوعي والمزاج الاجتماعيين، وبالتالي فإنّ دعم حركة المعلمين والعمل على تحقيق مطالبهم هي مصلحة وطنية، هي رفع للمناعة الوطنية في وجه الاحتلال الاستعماري من جهة وفي وجه القوى الظلامية والعدمية التي تنتظر لتعبث بوجودنا الاجتماعي ومشروعنا الوطني.
وعلى السلطة ومؤسساتها أن تختار: أما التحرك مع المعلمين إلى المستقبل أو المراوحة في الدائرة المفرغة التي ستبقيها معزولة عن شعبها وعن زمنه؟

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير