كيف نتحرر من "العبودية" لسياراتنا الخاصة؟

27.02.2016 10:17 AM

رام الله- وطنيتسبب الاستخدام المفرط للسيارات الخاصة في أضرار اقتصادية قد تصل إلى نسبة عالية من إجمالي الناتج القومي، إضافة إلى الأضرار البيئية والصحية الكبيرة التي يمكننا تلخيص أهمها بما يلي:

تلويث الهواء: يؤدي إلى تفشي الأمراض والوفيات.

ازدحامات مرورية: تتسبب في ضياع الكثير من ساعات العمل للاقتصاد المحلي.

ضياع مساحات مفتوحة: تستنزف الشوارع ومفترقات الطرق مساحات واسعة من الأراضي، وربما لا تكون أحيانا هناك ضرورة لإنشاء مفرق ما، علما بأن المفرق الواحد قد يستنزف مساحة كبيرة تصل إلى كيلو متر مربع أو أكثر كان يمكن استخدامها لأغراض أخرى أجدى نفعا؛ مثل أرض مفتوحة أو محمية طبيعية أو أراضٍ للبناء.

حوادث الطرق: وتتسبب في خسائر بشرية ومادية كبيرة.

السمنة: استعمال السيارة، على حساب المشي أو ركوب الدراجة، يؤدي إلى ارتفاع كبير في نسبة الناس الذين يعانون من الوزن الفائض ومن شح النشاط الجسماني. وقد أثبتت بعض الأبحاث أن الأولاد الذين يسيرون نحو مدرستهم مشيا على الأقدام أو بواسطة الدراجة، بدلا من السفر بسيارات ذويهم، يتمتعون بنظرة أكثر توازنا لذواتهم، ويُنَمّون، منذ طفولتهم، علاقات اجتماعية، ويربون أنفسهم، منذ الصغر، على ممارسات جسمية سليمة.

الضجيج: يعد التعرض المتواصل للضجيج عاملا ضارا لجودة الحياة، وعلى المدى الطويل، يتسبب في أذى صحي. ويعاني الناس القاطنون بجوار المراكز الرئيسية المزدحمة مروريا من صدمات الضجيج الحادة.

تلويث المياه الجوفية: تحوي المياه المتدفقة من الشوارع مواد سامة وخطرة تتسرب إلى مواردنا المائية وتلوثها.

يضاف إلى ذلك، أن شح المساحات المخصصة للبناء، الازدحامات المرورية الخانقة في جميع المدن الفلسطينية، أسعار الوقود المتفاقمة والأزمة المالية الحكومية اللانهائية، يفترض أن تدفع الجهات الرسمية والحكومية إلى التخلي عن سياسة تشجيع الناس على استعمال المركبات الخاصة، وبخاصة السيارات الفارهة؛ لصالح تحفيز حقيقي للمواصلات العمومية.

والمفارقة، أن الضفة الغربية وقطاع غزة لا تتمتعان بمساحات الأراضي الشاسعة كما في أستراليا أو كندا أو كاليفورنيا، كما أننا لا نملك صناعة سيارات؛ بل ما هو متاح لنا مجرد رقع صغيرة من الأراضي المعزولة عن بعضها البعض، كثيفة السكان والمحاصرة بالمستعمرات والقواعد العسكرية والجدار الكولونيالي. لذا، يفترض، منطقيا، بفلسفة وسياسة قطاع المواصلات، أن تعكسا هذا الواقع.

نظام المواصلات الفلسطيني المعطوب مكلف جدا، من ناحية التلويث الكبير للهواء، شق الشوارع والطرقات، إنشاء مواقف السيارات التحت أرضية، حوادث طرق يومية، تبذير الوقت، تكلفة وقود مرتفعة وغير ذلك. فالسيارة التي يفترض بها خدمتنا، تحولت إلى عبء لا يطاق.

كما أن الاستخدام اليومي للسيارات، بهدف الوصول إلى مكان العمل أو قضاء الحاجات في أثناء العمل، يعد من أبرز أسباب تلوث الهواء وحوادث الطرق، حيث تسير السيارة الخاصة الواحدة سنويا آلاف الكيلومترات، بينما قد تسير سيارة العمل عشرات آلاف الكيلومترات (وجزء لا بأس به من هذه المسافة يكون لأغراض شخصية!). وفي المتوسط، لكل كيلومتر سفر بسيارة خاصة، يقتل، في حوادث الطرق، بين ثلاثة إلى أربعة أضعاف من الأفراد، بالمقارنة مع السفر بالمواصلات العامة.

لذا، آن الأوان لاتخاذ قرار استراتيجي واضح وشجاع، بإهمال وتهميش الاهتمام بالسيارات الخاصة، والتركيز بقوة على تشجيع المواصلات العمومية، وبخاصة الحافلات.

وبطبيعة الحال، لا يعد مثل هذا التغيير سهلا، وهو لن يحدث بين ليلة وضحاها؛ لما يترتب عليه من خسائر في مداخيل الحكومة من ضريبة الشراء، فضلا عن البنى التحتية غير المناسبة، والعديد من المواطنين الذين لا يؤمنون بنظام المواصلات العمومية.

البديل البيئي

يعتقد العديد من الخبراء أن حل المشاكل المذكورة آنفا يكمن في عملية الدمج بين التقليل إلى الحد الأدنى من السفر بالسيارة الخاصة، وتشجيع استخدام المواصلات العامة.

يضاف إلى ذلك بعض الوسائل الأخرى؛ مثل تشجيع العمل من المنزل، وسفر الموظفين والعمال والطلاب بالمشاركة، مما يضمن انخفاضا إضافيا في مدى استعمال السيارات الخاصة.

إن أعدادا كبيرة من العاملين والموظفين يصلون إلى أماكن عملهم بسياراتهم الخاصة، والقلة هي التي تستخدم المواصلات العامة، بل الأقل منها أيضا من تستخدم أرجلها للمشي. وللمقارنة، فإن 12% فقط من العاملين في لندن يصلون إلى أماكن عملهم بسياراتهم الخاصة، بينما يستخدم 81% منهم المواصلات العمومية.

وفي هذا المقام، من المفيد التعلم من تجارب العديد من مدن العالم التي أحرزت تخفيضاً كبيراً في مدى استعمال السيارات الخاصة؛ وذلك من خلال استخدام وسائل بسيطة ورخيصة بشكل مدهش؛ مثل تخصيص مسارب خاصة للمواصلات العامة، ونظام معلوماتي مريح وفعال للمسافرين، وتخطيط سليم وعملي لخطوط المواصلات، وغير ذلك.

يضاف إلى ذلك بعض الوسائل الأخرى؛ مثل تشجيع العمل من المنزل، وسفر الموظفين والعمال والطلاب بالمشاركة، مما يضمن انخفاضا إضافيا في مدى استعمال السيارات الخاصة.

بالطبع، يتطلب تحفيز الناس على استعمال المواصلات العامة، العمل على إشاعة استعمال الحافلات والمركبات العمومية داخل وبين المدن والبلدات، وبأسعار شعبية، فضلا عن توفير البنية التحتية المناسبة من شوارع ومحطات خاصة للمركبات العمومية.

وفي غياب البنية التحتية المناسبة، ووجود مواصلات عامة غير فعالة، من السهولة بمكان اتهام الجهات الرسمية المعنية والحكومة بالتقصير والإهمال. لكن، ليس بالضرورة أن ننتظر تغير البلد حتى نبدأ بتغيير عاداتنا. بل يمكننا

البدء، على مستوى أماكن العمل والمؤسسات والشركات، بخطوات عملية سهلة، تهدف إلى التقليل كثيرا من استخدام السيارات الخاصة والعامة التي تشكل سببا أساسيا في التشوهات الحاصلة في البنية التحتية للمواصلات. وذلك، من خلال توفير محفزات تشجع على تقليل استعمال المركبات، وبالتالي التوفير في استهلاك الوقود.

وفي هذا السياق، من المفيد أيضا التعلم من تجارب بعض الشركات الأجنبية التي درجت على تخصيص سقف محدد شهري من الكيلومترات لكل موظف (بما في ذلك استخدام سيارته الخاصة أثناء العمل). وفي نهاية الشهر يتسلم الأخير تقريرا يفصل كيفية استعماله السيارة، وبالتالي تتم محاسبته ماليا. ففي حال سافر الموظف أقل من السقف المخصص له، يتم تحويل المبلغ الفائض إلى حسابه البنكي. أما إذا كان استخدامه للسيارة أكثر من السقف المخصص، فيتم عندئذ خصم القيمة المالية الزائدة من راتبه الشهري. وقد أثرت هذه الطريقة، بشكل مثير للإعجاب، على عادات السياقة لدى العمال والموظفين. بل إن بعض الشركات، مثل شركة "فورد" البلجيكية، التي طبقت بنجاح هذه الطريقة الهادفة إلى تغيير الأنماط السلوكية المتصلة بالمواصلات، تمكنت من تقليص عدد الموظفين الذين يصلون إلى مكان عملهم بسياراتهم الخاصة إلى 27.8% من إجمالي 12 ألف موظف في الشركة.

البعد الاقتصادي

وفي الحالة الفلسطينية، بالإضافة للبعد البيئي والصحي، هناك أيضا البعد الاقتصادي الوطني؛ إذ من الضروري تخفيض استهلاك وقود السيارات، والذي يتم شراؤه من إسرائيل (البنزين والسولار وغيرهما). وذلك باستعمالنا للدراجات الهوائية (بدلا من السيارات) في الجزء الأعظم من التنقلات القصيرة. كما أن المشي يعتبر خيارا آخر للتوفير في استخدام الوقود، بالإضافة للشعور الفعلي بالاعتماد على الذات، والناتج عن اعتمادنا على طاقتنا الجسمية الخاصة.

إن عصر الأزمة الاقتصادية "المستدامة" التي نمر بها، يعد فترة مناسبة جدا للبدء في تغيير أنماطنا السلوكية المتعلقة بالمواصلات؛ إذ في أوقات البحبوحة الاقتصادية، يصعب إقناع المؤسسات والمنظمات والشركات بأن تسلك هذا الطريق البيئي - الصحي والاقتصادي. بينما، في هذه الأيام الصعبة معيشيا واقتصاديا، من الواضح أن هناك حاجة ملحة لأن يقتصد الجميع في استهلاك الوقود وفي النفقات المرافقة، بما في ذلك النفقات المتصلة باهتلاك السيارة وصيانتها واستخدام مواقف السيارات. وذلك أفضل بكثير من اضطرار المؤسسات والشركات تسريح بعض عامليها لأسباب مالية.

وإذا لم يكن بدٌ من استعمال السيارة، فبإمكاننا استخدام المواصلات العمومية، وبذلك نقلل قدر الإمكان من عدد السيارات على الشوارع وبالتالي نخفض كثيرا في استهلاكنا للوقود، أو بإمكان العاملين في نفس الشركة أو المؤسسة، تنظيم سفريات يومية جماعية مشتركة إلى أماكن عملهم.

وهنا من المفيد التنويه إلى أن معدل الإنفاق السنوي على استعمال سيارة اعتيادية (بما في ذلك التأمين والترخيص واهتلاك السيارة وصيانتها) يتراوح بين 2000 إلى 3000 دولار وهذا المبلغ يعادل نحو 25% أو أكثر من معدل دخل الفرد السنوي في الضفة الغربية.

إذن، وكهدف وطني استراتيجي، لا بد من إحداث تغيير جذري في أنماطنا السلوكية المتعلقة بالمواصلات، سواء في المستوى الشعبي أو مستوى متخذي القرارات. ومن الواضح أنه، كلما ازداد عدد الناس الذين يستخدمون المواصلات

العمومية، كلما قلّت تبعيتنا لاستيراد الوقود من الاحتلال أو مصادر خارجية أخرى تتحكم في أسعار الوقود وجودته وكمياته وكيفية توزيعه.

لقد آن الأوان كي نتحرر من "العبودية" لسياراتنا الخاصة، وأن نقلل بالتالي تبعيتنا المبالغ بها للسيارة الخاصة، وأن نزيد اعتمادنا على البدائل الأكثر صداقة للإنسان والبيئة.

 

جورج كرزم/ خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير