باحثة تقرصن ملايين الابحاث وتنشرها للاستخدام المجاني

21.02.2016 05:40 PM

وطنعشية التاسع من تشرين الثاني عام 1989، بلغت الحرب الباردة نهاية دراماتيكية بسقوط جدار برلين. قبل ذلك بأربع سنوات بدأ جدارٌ آخر بالتداعي، يمكن القول أن له أثرًا أكبر على العالم من ذلك الجدار الذي كان يفصل بين ألمانيا الشرقية والغربية.

الجدار المقصود هنا هو الاشتراكات المدفوعة التي تَحول بين الأبحاث العلمية وبين عشرات آلاف الطلبة والباحثين في العالم في المنشآت التعليمية التي لا يمكنها تحمّل تكلفة الاشتراكات في خدمات الأبحاث العلمية. في الخامس من أيلول 2011 أسست الباحثة الكازاخية أليكساندرا إلبكيان موقع «ساي-هب» وهو موقع يتجاوز اشتراكات الأبحاث المدفوعة، ويتيح لأي شخص، وبشكل غير قانونيّ تقريبًا، كل الأبحاث العلمية التي نُشرت على الإطلاق.

يعمل الموقع على مرحلتين، يحاول في المرحلة الأولى تنزيل نسخة من قاعدة بيانات «ليب-جين» للمحتوى المُقرْصَن، التي فتحت أبوابها أمام الأبحاث العلمية سنة 2012، وتحتوي حاليًا أكثر من 48 مليون بحثًا علميًّا. الجزء المبتكر في النظام، هو أنه في حال لم تتوفر لدى «ليب-جين» نسخة من البحث، فإن ساي-هب يتجاوز حاجز الاشتراك المدفوع بالتوقيت الحي باستخدام كلمات مرور يتبّرع بها أكاديميون محظوظون ممن يدرسون في منشآت تعليمية لديها مجموعة اشتراكات جيدة. وهذا يُمكِّن ساي-هب من توجيه المُستَخدِم بشكل مباشر إلى البحث من خلال ناشرين مثل «جي ستور JSTOR» و«سبرنغر Springer» و«سيغ Sage» و«إلسفير ELSEVIER».

وبعد أن يوصل البحث العلمي إلى المُستخدِم خلال ثوانٍ، يقوم ساي-هب بالتبرُّع بنسخة إضافية من البحث إلى «ليب-غين» حيث يتمّ تخزينها إلى الأبد، وتكون متاحةً للجميع. غيّر هذا الموقع شروط اللعبة. فقبل أيلول 2011 لم تكن هنالك طريقة تتيح الأبحاث المدفوعة بالجملة للناس بالمجان، وكان على إلبكيان وأمثالها من الباحثين أن يواجهوا قدرهم بمفردهم. ساي-هب هو أول موقع يوفّر هذه الخدمة، وقد جعل العملية الآن ببساطة النقر على زر واحد. وبتزايد أعداد الأبحاث في قاعدة بيانات ليب-غين، فإن حاجة ساي-هب للخوض في مخزون أبحاث الناشرين ستنخفض وبالتالي ستتراجع احتمالية افتضاح أمرهم.

توضح إلبكيان «لقد قمنا بتنزيل أغلب الأبحاث التي تتطلب اشتراكًا في مكتبتنا، لدينا كل شيء تقريبًا!» وقد لا يكون هذا مجرد مبالغة. «إلسفير»، إحدى أكثر شركات النشر إنتاجًا وإثارةً للجدل في العالم، ادّعت في المحكمة أن ساي-هب يحصد محتوى إلسفير بمعدل آلافٍ من الأبحاث العلمية في اليوم. تقول إلبكيان أن عدد الأبحاث التي يتمّ تنزيلها من الناشرين على اختلافهم عبر ساي-هب يراوح مئات آلاف الأبحاث في اليوم، تُقدَّم إلى حوالي 19 مليون زائر يوميًا. فعالية النظام مُذهلة، حيث يعمل بشكل أفضل بكثير من أنظمة دخول بدائية نسبيًّا تُعطى للباحثين في أفضل الجامعات، وهي أدوات تدفع الجامعات مقابلها الملايين كل سنة. لا يحتاج المستخدمون الآن إلى زيارة موقع ساي-هب على الإطلاق، وبدلًا من ذلك عندما يصل المستخدمون إلى الشاشة التي تطلب الاشتراك للوصول إلى البحث العلمي يضعون عنوان URL الخاص بموقع ساي-هب ويلصقونه في شريطِ عنوانِ البحث العلمي المحميّ باشتراك مباشرة بعد الامتداد «.com» أو «.org» وقبل بقية عنوان صفحة البحث. هنا يتجاوز ساي-هب شاشة الاشتراك بشكل أوتوماتيكي، ناقلًا القارئ مباشرة إلى ملف من صيغة بي دي اف دون أن يحتاج المستخدم إلى زيارة موقع ساي-هب.

إذا فشل النظام في البداية في اختراق الشبكة للوصول إلى البحث العلمي، فإنه يجرب أوتوماتيكيًا استخدام كلمات سر جامعات مختلفة حتى يتمكن من الوصول إلى البحث. بضربةٍ واحدة أُوجِدتْ شبكةٌ تتمتع بقدرة على الوصول إلى العلوم تفوق أي جامعة، وربما تفوق أي حكومة في كل العالم.  

  ساي-هب يمثل مجموعَ قدرةِ الوصولِ المؤسسيةِ التي يتمتع بها عدد هائل من الجامعات، أي أن نقول أنها تمثل عالمًا من المعرفة. هذا مهمٌّ الآن أكثر من أي وقتٍ مضى، في عالمٍ ما عاد فيه بإمكان جامعة كجامعة هارفارد أن تدفع اشتراكات المجلات الأكاديمية المتصاعدة، بينما ألغت جامعة كورنيل الكثير من اشتراكاتها مع إلسفير قبل أكثر من عشر سنوات. وبالنسبة للكثير من الباحثين خارج الجامعات الغنية في الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية فلطالما كانت القرصنة الروتينية هي الطريقة الوحيدة لمواكبة العلم، إلا أن مشكلة الأبحاث العلمية باهظة التكلفة تتزايد وتقترب من هذه البلدان. كانت هذه تجربةَ إلبكيان نفسها التي درَسَت في جامعة كازاخستان، مثل غيرها من طلاب البلدان التي لا يمكن فيها للجامعات أن تتحمل كلفة اشتراكات الأبحاث العلمية، واضطرت لقرصنة الأبحاث حتى تتمكن من استكمال دراستها. أخبرتني إلبكيان أن «الأسعار باهظة جدًا، وهذا جعل شراء الأبحاث ضربًا من المستحيل. يحتاج المرء لقراءة الكثير من الأبحاث لإعداد بحث، وعندما تصل كلفة البحث الواحد 30 دولارًا يصبح الأمر مستحيلًا».   إذن كيف تمكّن الباحثون مثل إلبكيان من الاستمرار قبل ساي-هب؟ أوضحت إلبكيان «لسنوات قبل ساي-هب كانت هذه المشكلة تُحلُّ يدويًا! مثلًا، يدخل الطلبة إلى منتديات إلكترونية يتواصلون فيها مع غيرهم من الباحثين، ويطلبون منهم الأبحاث هناك، وحينها يستجيب أشخاص آخرون لهذا الطلب».    بالنسبة للكثير من الباحثين خارج الجامعات الغنية في الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية فلطالما كانت القرصنة الروتينية هي الطريقة الوحيدة لمواكبة العلم. هذه الممارسة منتشرة حتى يومنا هذا، حيث يضطر الباحثون حتى في الجامعات الغربية الغنية إلى إرسال بريد إلكتروني إلى مؤلفي الأبحاث مباشرةً ليطلبوا منهم إرسال نسخة عبر البريد الإلكتروني، بما فيه مضيعةٌ لوقتِ جميع الأطراف وعرقلةٌ لسيرِ البحث الجاري. حالياً يستخدم الكثير من الباحثين وسم #icanhazpdf على تويتر ليطلبوا من باحثين مُحسِنين أن ينزّلوا لهم الأبحاث التي تتطلب اشتراكًا، وهو ما تصفه إلبكيان بأنه ممارسة «عتيقة جدًا» كما تشير إلى أن «مشروع ساي-هب دشّن حقبة جديدة في طريقة إعداد الأبحاث خاصةً في روسيا.

فطلبات المعلومات تُحلُّ الآن من قِبل الآلات، وليس على أيدي باحثين آخرين. جعلت الأتمتة عملية الاستجابة للطلبات أكثر فعالية. في السابق كانت مئات الطلبات تُحلّ في اليوم الواحد، ساي-هب حوّل هذه الأرقام إلى مئات الآلاف».     في العام الماضي أصدر قاضي محكمة مقاطعة نيويورك روبرت سويت قرارًا قضائيًا تحفظيًّا بحق ساي-هب، مما حجب عنوان الموقع السابق. جاء هذا القرار ضمن الإعدادات للقضية الكبيرة التي رفعتها إلسفير على ساب-هب والتي يُتوقّع أن تفوز بها إلسفير، نظرًا إلى ضعف احتمالية أن يأتي أي أحد على الأراضي الأمريكية ليدافع عن ساي-هب.    رفعت إلسفير دعوى بالتعويض عن ضرر لا يمكن إصلاحه، بناء على تعويضات قانونية بقيمة 750 إلى 150000 دولار مقابل كل بحث تمّت قرصنته، ونظرًا إلى أن لدى ساي-هب الآن مكتبة تضمّ أكثر من 48 مليون بحث فقد تبلغ قيمة دعوى إلسفير مليارات، ولكن يمكن توقُّع أن تبقى مجرد فرضية على المستويين النظريّ والعمليّ. إلسفير أكبر شركة نشر أكاديمي وهي الأكثر إثارة للجدل على الإطلاق، حيث التزم 15 ألف باحثٍ بمقاطعتها بسبب أسعارها «الفاحشة الارتفاع»، وبسبب ربطها لاشتراكات المجلات العلمية المهمة باشتراكات مجلات باهظة الثمن وغير مرغوبة، وهو ما يتسبب بإفلاس مكتبات الجامعات. كما تدعم إلسفير قانوني سوبا SOPA وبيبا PIPA (قانون وقف القرصنة على الإنترنت، وقانون حماية الملكية الفكرية)  ويعتبر الباحثون أن هذين القانونين يهدّدان التبادل الحرّ للمعلومات. ولعل إلسفير هي الأسوأ سمعة لإرسالها تنبيهات للأكاديميين تطالبهم فيها بإزالة أبحاثهم الشخصية المنشورة مع إلسفير عن مواقع مثل موقع Academia.edu.

تسارعت الحركة ضد إلسفير خلال السنة الماضية فقط باستقالة 31 عضوًا من هيئة تحرير واحدة من مجلات السفير الأكاديمية «لينغوا» الذين استقالوا محتجّين لتأسيس مجلتهم الخاصة «غلوسا» التي تمتاز بخاصية الوصول المفتوح. وانتقلت ساحة المعركة الآن من مجال اللغويات المحدود نسبيًا إلى مجال العلوم المعرفية الأوسع. الشهر الماضي، وقّع حوالي 1500 باحث في مجال العلوم الإدراكية (cognitive science) على عريضة تدعو المحررين في مجلة إلسفير «كوغنيشن» بتوفير «وصول مفتوح وعادل». تطالب إلسفير الباحثين بدفع 2150 دولار إذا كانوا راغبين في إتاحة أبحاثهم المنشورة في «كوغنشن» للعامّة، وهذا مبلغ أعلى بكثير من المبلغ الذي أدى إلى تمرد محرري «لينغوا». وفي رسالة أرسلتها إلبكيان إلى القاضي، دافعت عن قرارها على أساس أخلاقي وليس على أساس قانوني. كتبت إلبكيان في رسالتها: عندما كنت طالبة في جامعة كازاخستان لم تكن الأبحاث العلمية متاحةً أمامي، كنت أحتاج هذه الأبحاث لإعداد مشروعي البحثي. إن دفع 32 دولار هو ضربٌ من الجنون عندما تحتاج لأن تمرّ بشكل سريع أو أن تقرأ عشرات أو مئات الأبحاث لتعدّ بحثك. كنت أحصل على هذه الأبحاث عن طريق قرصنتها، ثم اكتشفت لاحقًا أن هنالك الكثير من الباحثين (ليسوا مجرد طلاب، بل باحثين جامعيين) مثلي تمامًا، خاصة في الدول النامية.

لقد أنشأوا مجتمعات إلكترونية (منتديات) لحل هذه المشكلة، وكنت أنا مشاركة فاعلة في واحدة من هذه المجتمعات في روسيا. وكان يمكن لأي شخص يحتاج بحثًا ولا يستطيع أن يدفع مقابله أن يضع طلبًا هناك، ثم يقوم الأعضاء الآخرون ممن يستطيعون الحصول على البحث بإرساله إليه عبر البريد الإلكتروني. كان بإمكاني الحصول على أي بحث عن طريق قرصنته، لذلك كنت أستجيب للكثير من الطلبات وكان الآخرون شاكرين على المساعدة. بعد ذلك أسست Sci-Hub.org وهو ببساطة موقع يجعل هذه العملية أوتوماتيكية واكتسب الموقع شعبية سريعة. صحيح أن ساي-هب يجمع التبرعات، إلا أننا لا نضغط على أحد حتى يرسل التبرعات. إلسفير في المقابل، تعمل بمبدأ المقايضة: إذا لم ترسل المال فلن تقرأ أي بحث.

يمكن لأي شخص على موقعي أن يقرأ كل الأبحاث التي يريدها وبالمجان، ويرسل التبرعات بشكل طوعي. وهنا أتساءل: لماذا لا تعمل إلسفير بنفس الطريقة؟ أوضحت إلبكيان في رسالتها للقاضي سويت نقطة قد تصدم العديدين من خارج المجتمع الأكاديمي: الباحثون والجامعات لا يجنون قرشًا واحدة من الرسوم التي يفرضها عليها الناشرون -مثل إلسفير- لقبول أعمالهم، بينما يتجاوز دخل إلسفير السنوي مليار دولار أمريكي. توضح إلبكيان: «كما أود أن أذكر أن إلسفير ليست من أنتجت هذه الأبحاث. كل الأبحاث الموجودة على موقعهم كتبها باحثون، والباحثون لا يتلقون أي مبالغ من تلك التي تجمعها إلسفير. وهذا مختلف تمامًا عن صناعة الموسيقى والأفلام، التي يتلقى فيها مالكو المحتوى مبلغًا مقابل كل نسخة تباع.

إلا أن اقتصاد الأبحاث مختلف جدًا، فكتّاب هذه الأبحاث لا يتلقون أي مقابل. لماذا يرسلون أعمالهم إلى إلسفير إذن؟ إنهم يتعرضون للضغط حتى يرسلوها، لأن إلسفير هي مالكة ما يعرف بالمجلات العلمية «عالية التأثير». وإذا أراد باحث أن يُعترف به، وأن ينجح في مسيرته المهنية فسيتوجب عليه أن ينشر أبحاثه في مثل هذه المجلات». وهنا تكمن السخرية، فما الذي يدفع باحثًا يحترم نفسه لتسليم حقوق عمله الشاق طائعًا مختارًا دون مقابل لمنظمة ستحقق من ورائه ربحًا بجعل الوصول إلى البحث باهظًا وتعجيزيًا للقلائل الذين يرغبون في قرائته؟ الإجابة متعلّقة بالآفاق المهنية والمركز المرموق. حيث تتم مكافأة الباحثين بوظائف وترقيات نظير نشرهم لأبحاثهم في مجلات علمية رفيعة المستوى مثل مجلة «نيتشر».   ومن المثير للسخرية أنه بات من الشائع عدم قدرة الباحثين أنفسهم على الوصول إلى أعمالهم المنشورة، نظرًا إلى أن المزيد من الجامعات الأغنى انضمت إلى نظيراتها العاجزة عن دفع الاشتراكات. والمفارقة المأساوية أن المجلات العلمية عالية التأثير قد تكون أقل مصداقية من المجلات ذات الترتيب الأدنى، نظرًا إلى متطلباتها التي تملي على الباحثين أن ينشروا نتائج مُفاجِئة، مما قد يؤدي إلى زيادة احتمالية الاحتيال والممارسات البحثية السيئة. 

  ولكن الأمور تتغير، فالباحثون يقاومون مشكلة الناشرين الذين يتبنون أسلوب الوصول المغلق، وممولو الأبحاث مثل «صندوق ويلكم» انضموا إلى النضال بمأسسة سياسات وصول مفتوح تمنع فيها باحثيها من النشر في المجلات ذات الوصول المغلق، إلا أن كل هذا لا يساعد الباحثين الذي يحتاجون إلى الوصول إلى العلوم الآن. ومن ناحيتها فإن إلبكيان لن تستسلم، بالرغم من الضغوط القانونية المتنامية والتي ترى أنها ظالمةٌ تمامًا. وعندما سألتها عن الخطوة التالية قالت إلبكيان: «لا أريد أن تعرف إلسفير عن خططنا» ولكنها أكّدت لي أن أمر المحكمة الأخير لم يُحبِطها، وأكدت بتحدٍّ: «لن نوقف أنشطتنا، ونخطط لتوسيع قاعدة بياناتنا». بعد بضعة أيام فقط من قرار المحكمة الذي حُجب بموجبه موقع ساي-هب، عاد الموقع إلى الشبكة بعنوان جديد يمكن الوصول إليه من كل مكان في العالم. ومنذ صدور قرار المحكمة تم تحديث الموقع ليتحوّل من موقع بسيط متوفر بالكامل باللغة الروسية إلى موقع منقّح باللغة الإنجليزية يقدّم بفخرٍ مكتبة تضم 48 مليون بحث، مع بيان معارض لقانون حقوق الملكية. لقد خرج العصفور من القفص وإن كانت إلسفير ما زالت تظنّ أنها قادرة على حبسه مرةً أخرى فهي مخطئة إلى حد بعيد. 

 

تصميم وتطوير