المحاكمة...بقلم: عاطف الغمري
قد تكون التهم التي يحاكم عنها الرئيس السابق مبارك، مشتملة على جرائم كبرى مثل مسؤوليته عن مقتل 850 متظاهراً، وإصابة نحو ستة آلاف، واستغلال النفوذ للتربح، وتهريب المليارات للخارج، والإفساد السياسي، لكن ذلك كله تحتويه منظومة سياسات وإجراءات، وسلوكيات، كانت تقود عملياً إلى هدم الدولة .
هل يختلف ما فعله نظام مبارك، عن تجنيد المخابرات الأمريكية لمسؤول رفيع المستوى بإحدى دول أوروبا الشرقية، عهدوا إليه بمهمة وحيدة، هي أن يستغل موقعه في منصبه رفيع المستوى، في وضع ترتيبات تضمن اختيار من يعين في منصب بالدولة بمواصفات: الخواء الفكري، والتسطيح العقلي، والأمية السياسية، وضآلة الخبرة، والمهارة، وإن ذلك هو الذي سيقود إلى هدم الدولة وانهيارها، وهو بدوره وبمواصفاته تلك، سيقوم باختيار معاونيه على شاكلته، ما يسرع بالانهيار والهدم .
لقد تقوقع نظام مبارك حول هدف البقاء الأبدي في الحكم، وهو مما تلفظ به أمام مجلس الشعب، معلناً بقاءه في الحكم حتى آخر نبض في قلبه .
وأضيف إلى هذه الغاية، هدف آخر وهو توريث الحكم لابنه، وكان رجال النظام المختارون بمواصفات دقيقة، قد تشربوا فلسفته عن وعي تام .
ولذلك لاحظنا في السنوات العشر الأخيرة أن هذه المواصفات كانت الحاكمة، في اختيار قادة قطاعات الدولة في مختلف مجالاتها، وبالتنسيق بين جمال مبارك، وجهاز أمن الدولة ومن أشخاص لديهم استعداد صريح لدور التخديم على توريث جمال مبارك .
وارتبط ذلك بخروج الرئيس السابق على المصلحة العليا للوطن، بتهميش مفهوم الأمن القومي، وإلا فقد شرعية بقائه، لأنه بذلك يكون قد تخلى عن مسؤوليته في حماية الدولة وشعبها ومصالحها العليا، والعمل على تعظيم مكانتها في الداخل، ومصالحها في الخارج، واستبدل مبارك هذا المفهوم بمبدأ أمن النظام، الذي يعني توجيه كل إمكانات الدولة وجهودها نحو هدف وحيد هو حماية الرئيس ونظامه، وهو ما ينتقص من إمكانات حماية أمن الدولة .
وكانت النتيجة المترتبة على ذلك، توحش هذا الجهاز الذي مد أذرعه في جميع أرجاء الدولة، يتحكم، ويملي إرادته، ويعين، ويزيح، ويبطش، إلى المدى الذي وصل إلى قتل عمدي للمتظاهرين سلمياً في ميدان التحرير، واستخدام القناصة، وتوظيف البلطجية محترفي الإجرام .
وعمل النظام على تفريغ مؤسسات الدولة من أي وجود فعلي، يشهد بأن هناك دولة مؤسسات، بدءاً من تزوير الانتخابات، وإيجاد برلمان تشريعي زائف لا يمثل الشعب، إلى تدخل فج في أعمال القضاء والصحافة، التي عمل على الضغط عليها لتكون أبواقاً تنطق بما يريده من أكاذيب ومخاطبة الشعب بلغة، تبدو كأن رجال الرئيس يتصورون أن المصريين شعب من السذج عديمي الفهم، يمكن التلاعب بعقولهم، فكانت خطبهم تنضح بما استحكم فيهم من عنجهية وتعال وتزييف للواقع، بما في ذلك حديثهم المتكرر عن أن مصر تعيش أزهى عصور الديمقراطية.
لقد بدا عليهم وكأنهم هم الورثة الشرعيون لأول وثيقة وضعها الاستعمار البريطاني، للسيطرة على مصر، وإهدار كرامة شعبها، فعقب هدية الثورة العرابية عام ،1882 أوفدت بريطانيا إلى مصر، لورد دوفرين سفيرها لدى الدولة العثمانية، وممثلها الدبلوماسي في القاهرة، ليضع وثيقة تضمن انكسار المصريين، وعدم تكرارهم ثورة عرابي مرة أخرى .
وكتب دوفرين وصيته مطالباً بعدم الأخذ بالنظام النيابي في مصر، والابتعاد عن الديمقراطية . ولعلي أضيف إلى ذلك ما جاء في دراسات استراتيجية “إسرائيلية” قبل عشر سنوات، اتفقت على أن أشد ما يقلق “إسرائيل”، أن يتغير ميزان القوى بينها وبين مصر وأن ذلك سوف يحدث في حالتين: الأولى أن تحكم مصر، حكماً ديمقراطية حقيقياً، والثانية أن تتحقق فيها تنمية اقتصادية تنهض بالدولة .
لكن مصر كانت تخضع لحاكم يتخذ قرارات معادية للتقدم، معرقلة لأي فرصة لتحولها إلى دولة منتجة، وأن تبقى دولة مستهلكة للمحافظة على عمولاته هو ورجاله من الاستيراد .
إن الرئيس السابق حين تقوقع حول ذاته، وأمسك بكل السلطات في يده، متحكماً في البلاد والعباد، وعمل جاهداً على تكاثر فرق المنافقين الذين راحوا يدقون على آذانه معزوفات التملق، وترديد مقولاتهم عن أنه ليس في مصر من هو أهل للحكم سواه، فحدث في عقله خلط بين الحقيقة والضلال، وتصور أنه صاحب فضل على المصريين، وليس مكلفاً بخدمتهم، وزال من عقله الخط الفاصل بينه وبين الدولة، وصار هو والدولة في نظره شيئاً واحداً، عندئذ يحق له أن يفعل بها ما يشاء .
ولم ينفصل الرئيس المخلوع عن شعبه فحسب، بل كان هناك أيضاً انفصاله الذهني والعقلي عن العالم، بتطوراته، ومفاهيمه، ونظرياته المتغيرة، وحدث على يديه شحوب الدور الإقليمي لمصر . وأغمضت عيناه عن تجارب دول تتقدم وتنهض وهي التي كانت لا يتوافر لها ما تملكه مصر من موارد مادية وبشرية، فلم يستوعب ما يحدث فيها أو يستفيد منه .
وظلت علاقاته واتصالاته الخارجية، تنحصر في كونها تحركات علاقات عامة .
إن أبعاد المحاكمة متسعة وشاملة، وتضم فوق كل التهم الموجهة إليه، سلوكيات رجل ونظام، كانت كل أفعاله مضادة لكل ما فيه مصلحة شعبه، معوقة لكل فرصة للتقدم، هادمة للدولة ذاتها، ليحل محلها كيان لا يدار بالطرق التي تدار وتحكم بها الدول .
عن جريدة الخليج
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء