تَعَلَّمْ من حَفيدك...بقلم: خيري منصور
لم يقرأ حرفاً واحداً مما قرأت، ولم يذهب إلى أي مكان في العالم كما ذهبت، يجوع فيبكي لأن الدموع أداته الوحيدة للتعبير عن الحاجة والألم، كما أن الابتسامة هي أداته الوحيدة للتعبير عن السرور، ولم يتعلم الكذب بعد، إلا إذا كان كذباً أبيض وأشد نصاعة من الثلج والياسمين كأن يفتعل البكاء لكي تحمله وتضمه إلى صدرك، حفيدك الذي لم يقرأ كتاباً هو بحد ذاته كتاب، تستطيع أن تتفحصه حرفاً حرفاً إذا توفرت لديك الرغبة والقدرة على استبطان هذا الكائن قبل أن يتورط باللغة .
إنه أطول منك قامة إذا حملته على كتفيك وبالتالي يرى أبعد مما ترى، وحين جعل أندرسون المتخصص في أدب الأطفال أحد هؤلاء الأحفاد الصغار يفتضح عري الإمبراطور الذي يتغزل البالغون بثيابه أعاد للطفولة حقها المسلوب في الشجاعة، فلا حسابات لدى الأحفاد أبعد من لعبة أو قطعة حلوى لأنهم لم يدخلوا بعد إضراباً، ولم ينضموا إلى نقابات، ولم يقرأوا كتباً من طراز الأمير لميكافيلي، وكفاحي لهتلر، ومذكرات تشرتشل وستالين، ولا يعرفون من هو بروتوس الذي طعن صاحبه في الظهر .
الحفيد الذي يلثغ حتى بالدمعة والابتسامة مكتبة وليس كتاباً فقط، فهوى يرى الأشياء للمرة الأولى بدهشة أنت محروم منها بسبب الألفة والتكرار . وقد يلمس النار بأنامله الصغيرة لأنه لا يعرفها ولا يفرق بينها وبين ضوء النهار، والخطأ الفادح والفاضح لكل البالغين هو أنهم تعاملوا لزمن طويل مع الطفل، كما لو أنه رجل غبي لم يصل سن الرشد، والحقيقة أنه ليس كذلك على الاطلاق .
فعالمه الداخلي شبه المجهول لأنه لا يفصح عنه إلا بواسطة الغرائز والفطرة، مليء بما لا نعرف، فهو أحياناً يضحك أو يبكي وهو نائم لأنه يحلم وقد يعاني من كابوس هو انعكاس لواقعة أو صرخة أفسدت عليه استغراقه في النوم أثناء النهار وفي حمى سعار البالغين واشتباكاتهم حول أمور لا يفهمها، ولو فهمها لسخر منها وأغمد فوهة زجاجة الحليب في فمه ونام .
حتى الفِطام ليس شأناً طفولياً فقط، فهو يحققه مبكراً حين يفطم عن ثدي أمه، لكن البالغين لا يُفطمون عن عادات وأساليب تفكير وحيل ومراوغات انتقلت إليهم بالعدوى حتى الموت .
ولم أكن أتصور ذات يوم أن طفلاً يلثغ بالدمعة والضحكة قد يعلم أباه أو جده ما لم يتعلمه من فرويد وماركس، وربما أرسطو وابن خلدون، لأنه بالفطرة يعبر عن غرائزه وبحرية وبلا عوائق أو خوف .
لكنه ما أن يُفطم عن الحليب حتى يبدأ برضاعة ثقافة مترعة بفنون الكذب والمراوغة، وارتداء الأقنعة، فكيف يمكن لهذا الصغير والأمي الذي لم ينطق بعد بغير الأنين والسعال والضحك الغامض أن يكون كتاباً بل من أهم كتب العالم؟
قد يبدو صفحة بيضاء من خارجه، لكنه في العمق ليس كذلك، فهو يحس بالفطرة وإن كان لا يدرك أنك تحبه أو تكذب عليه، أو أنك تحمله استرضاء للعائلة أو أنك تريد أن تتنفس ولو للحظة من رئته النظيفة ومسامات جسده التي لم تفسدها البيئة وما يعج به العالم من ملوثات . . لهذا جرب أيها الجدّ المتعالي أن تدير ظهرك لمكتبتك ولو يوماً كي تتفرغ لقراءة حفيدك .
عن جريدة الخليج
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء