في وداع المحارب الذي إستراح!- عاطف سعد

10.05.2012 10:04 AM
تعرفت على الراحل عبد الرازق أبو بكر في مطلع الثمانينات، عندما تولى مسؤولية دائرة شؤون الطلبة في جامعة النجاح الوطنية. وقد اثارت شخصيته الودودة، والصلابة الكامنة فيها، إنطباعات قوية أثارت في نفسي تداعيات أعادتني لتذكر شخصية نجله البكر رشيد الذي إلتقيته في مدرسة سجن نابلس القديم في العام 1969.
كانت الساحة الطلابية في الجامعة (خلال عامي 1981 و1982) تشهد أجواء عاصفة بعد أن إنزلقت الكتل الطلابية عن مسار المنافسة الديموقراطية التي تقررها صناديق الإقتراع، إلى منافسة عنيفة ( في بعض الأحيان) صَدَمت الجامعة والمجتمع المحلي في حينه.
وقد ولَدَت المنافسة إستقطابا حادا بين الكتلتين الطلابيتين الرئيستين: الكتلة المستقلة (الإسلامية، الناشئة في عام 1979) والكتلة الوطنية (تآلف طلابي لفصائل منظمة التحرير)، لجذب الطلاب لدعم واحد من مشروعين: المشروع الإسلامي، الذي إنتعش (آنذاك) بفضل إنتصار الثورة الإسلامية في إيران في شباط 1979 ، والمشروع الوطني التحرري الذي تتبناه منظمة التحرير الفلسطينية.
وقد أظهر الرجل قدرة وحكمة، في كبح جِماح العنف، من خلال إستيعاب الرؤوس الحامية من الطرفين ومساعدة أصحابها بولوج منهج الحوار، بما يترتب على ذلك من تفاهمات الحل الوسط على أرضية نبذ العنف والإنتصار لمنهج الحوار وتوفير المناخ الصحي للطلبة ليختاروا بحرية! وقد وظَف فقيدنا الكبير مهارات التأثير والإقناع، تارة، ومهارات الضغط على أطراف التنافس، تارة أخرى، في مساعي الوساطة التي كان ينخرط بها منذ اللحظة الأولى لوقوع أي توتر بين الكتل. ولطالما وظَفَ الأشعار الوطنية والإنسانية والآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة ودعم صمود المعتقلين عندما يتحدث مع ممثلي الكتل الطلابية المتنافسة. الأمر الحاسم لديه مصلحة الجامعة وطلابها. ومن يتجاوز المصلحة العليا أو يستخف بها، كان يتعرض للزجر"الأبوي" الصارم من "العم أبو رشيد" كما كنا نُخاطبه تأدبا وإحتراما، رغم إختلافنا معه.
كان بحق صمام أمان يرجع إليه الجميع بدون إستثناء.
كان يحرص على تفقد أحوال الطلبة ميدانيا. كان المشي على قدميه تمرينا يوميا محببا لديه. كان أنشط منا جميعا في المشي في أروقة الجامعة وساحاتها. كنت تلقاه وجها لوجه و بدون سابق إنذار في أي زاوية من زوايا الحرم الجامعي القديم وبرفقته الأستاذين الفاضلين المساعدين في عمادة شؤؤون الطلبة، أنور فضة وعمر الزاغة.
"مرحبا شباب، شو عاملين؟، يسألنا مبتسما.
"أهلا! يعطيك العافية عم أبو رشيد." نرد.
كان يُخفي إنحيازه الحزبي أو التنظيمي! وهذا من مقتضيات وظيفته. لكن، فلسطين والقدس والفقراء والطلبة الذين يتعرضوا للإعتقال، كانت أولوياته التي لم يتردد إبدا في إشهار ولائه لأي منها! بعد سبر غور ولائه تتضح سذاجة السؤال، "لأي إطار ينتمي!" وكنت أقول له، في جلسات هادئة، كنت أصفها "بإستراحة المحارب"، هذه الأولويات لدى حضرتك تجلي غموضا كنت أستشعره في شخصية إبنك رشيد أثناء تعارفنا في السجن. وحَرِصَ، رحمه الله ، على الإستماع لأبسط التفاصيل المتعلقة بتجربة إبنه في "مدرسة السجن". وأقول ،" وبرغم وطأة الإعتقال الإداري الثقيل، كان رشيد شخصية ودودة مفعمة بالحيوية. في إمسيات الخميس كان يؤدي حركات راقصة مستعينا بكعبي رجليه فيثير حماسة وإعجاب مشاهديه من طلاب المدرسة السجناء أيضا. وكان يتقن لعبة التعرف على الأشخاص من أصابع أقدامهم. كان يتعمد إشاعة المرح ليُسهِمَ برفع معنويات الرفاق. وكان يحرص على أن يقدم لهم رسالة تمنح الأمل."
كان يفخر برشيد، وهو يستمع لشهادة زميل سابق لإبنه، ويتألم لفراقه بعدما أبعدته السلطات الإسرائيلية عن أرض الوطن. لكن وجعه الدائم كان نجله الأوسط عصام الذي كان (أثناء حديثي معه) يُمضي محكومية في السجن ب"تهمة" مقاومة الإحتلال زادت عن 13 سنة.
ويعبر عن مشاعره:
مهلا بنيَ وإن تثاقل ليلنا إصبر فآخرةُ الظلام نهارُ
والظلمُ حتى لو تفاقم أمرُهُ تمحوه مثلك فتيةٌ أحرارُ
هُموم أبو رشيد الشخصية والوظيفية، لم تُبعده عن الإنخراط في تقديم يد العون للطلبة الفقراء. في أحد الأيام همس بإذني قائلا، توجد لدينا بعض التبرعات من "فاعلي خير" يريدون مساعدة الطلبة المحتاجين. أريد منك توصية عن طالبين فقيرين بحاجة لمن يدفع عنهما قسطا. لم أسأله عن هوية "فاعلي الخير". وبالفعل أوصيت بما طلب بعد ايام. وتكررت التوصية مرتين أخريين.
وتصادف أن أوصيت له بمساعدة طالبين من أنصار كتلة طلابية منافسة، ولم أذكر ذلك له. بعد مرور يومين أو ثلاثة إستدعاني لمكتبه وقال أترشح أشخاصا يعارضونكم؟ فقلت عندما ذكرت لي عن معايير" فعل الخير" لم تذكر أسم التنظيم أو الكتلة التي ينتمي إليها الطالب المستهدف. المهم أن يكون أو تكون بحاجة للمساعدة. فرد بإبتسامة عريضة، "صَدَقت!" وأقرَ لهما المنحة وهي لم تتجاوز في اسعار تلك الايام 100 دينار. كان يحرص على إحترام خصوصية المستفيدين وبخاصة إذا كن طالبات.
وعندما يصدف أن يأتي من إنتفع من مساعدة "فاعل الخير" لشكر العم أبو رشيد يرد عليه شعرا من نظمِه ويقول:
لا تسل واعمل جميلا واحمل القلب الكبير
كن جوادا لا شحيحا لا تصدن الفقير
رحمك الله ايها المحارب الصامت إلا عن قول المفيد للوطن وللناس الطيبين وتقديم العون للفقراء المستورين.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير