نحن .. والتطبيع مع الأحمر- بقلم : ايمن النمر
08.05.2012 10:34 AM

يكاد لا يمر يوم إلا وتطلع علينا قناة فضائية جديدة ، تدخل بيوتنا دون استئذان ، وربما عنوة. وإذا ما قمنا بتصنيف مجمل المحطات المرئية التي نستقبلها من خلال قمر صناعي واحد على الأقل ، ولنقل ، قمر النايلسات ، الأكثر شهرة ، نجدها موزعة ما بين محطات إخبارية ، وهي النسبة الأقل ، ومحطات الأغاني والأفلام والمنوعات ، وهي النسبة الأكبر ، وفيما بين ذلك محطات تحمل طوابع طائفية أو حزبية بشكل مكشوف أو مبطن ، وهناك بعض المحطات الرياضية ، وبعض المحطات الدينية ، ومحطات الأطفال والرسوم المتحركة ، والمحطات التعليمية.
إن هذا التنوع الكبير ربما يظهر كتنوع حميد ، إذا ما تعاملنا مع الأمر من باب التعددية وحرية الرأي والتنافس. وهذا مشروط بأن المتلقي هو على درجة من النضج العمري أو الثقافي ليتمكن من فرز الغث عن السمين من بين تلك المحطات ، لأن تلك المحطات هي في النهاية تحمل مضامين ثقافية لا تتوافق بالضرورة مع البنية الثقافية والإجتماعية والأخلاقية والدينية السائدة في كل بقعة جغرافية عربية تتلقى وتتلقف تلك المضامين. وربما تختلف التفسيرات والإجتهادات حول مناسبة محتوى تلك المحطات لطبيعة الجمهور ، بحيث يقال .. هذه حرية تعبير ، ولا يجب أن تخضع المحطات لرقابة. حسناً .. ولكن الأمر تعدى مسألة الحرية الى مسألة الفوضى والأنفلات ، وما بينهما خيط رفيع.
لا أرغب في استعمال مصطلحات درج السياسيون على استخدامها ، من قبيل ، الغزو الثقافي ، ونظرية المؤامرة .. الخ.. ولكن الأمر هو في غاية الجدية. لقد كان الدافع لكتابتي هذا المقال هو اكتشافي لبضع قنوات جديدة تبث مباريات "المصارعة" على مدار أربع وعشرين ساعة. وقد وضعت كلمة مصارعة بين قوسين لأن المحتوى هو ليس برياضة المصارعة ، إذا كنا نعتبرها رياضة أصلاً. ولكن التعبير هو للدلالة والتعريف فقط. لقد هالني ما رأيت من عنف وحشي ودموي ، تعدى منطق الرياضة والمتعة ، ووصل الى تصوير أساليب قتل وتشويه أكرم مخلوقات الله وهو الإنسان. يستطيع المشاهد أن يرى يومياً وبكبسة زر ، كيف يحمل أحد المصارعين مطرقة أو كرسياً أو سلماً حديدياً أو مفكاً للبراغي، وينهال ضرباً على رأس المصارع المنافس بلا رحمة ، ونرى المصارع الآخر كيف يسبح بدمائه التي تملاً جنبات الحلبة ، ونسمع صيحات الجمهور الذي يشجع المتصارعين "المجرمين" على التمثيل بجثث بعضهم ، في مشهد يعيدنا الى غابر الأيام عندما كان الرومان يضعون سجناءهم في حلبة مصارعة مع أحد الحيوانات الكاسرة ، أمام الجمهور، ليجهز في النهاية عليه بعد جولة من النهش والتمزيق لجسده. ولا أنسى أن أشير الى أن تلك القنوات تبث أيضاً ما تسميه "مصارعة نسائية" ، ولست أفهم كيف يتفق كل هذا العنف والإجرام مع تكوين النساء جسدياً وعاطفياً ، وما هي الأهداف وراء ذلك ؟!
قد لا يتصور البعض مدى خطورة مشاهدة جيل الأطفال والمراهقين لهذه المشاهد المكثفة واليومية، على صياغة نمط تفكيرهم وميولهم السلوكية ، والتي يمكن لمن هم أعمق مني إطلاعاً و تخصصاً في علم النفس وعلم الإجتماع ، أن يقدروا حجم الضرر الناجم عن حصول تطبيع يومي مع هذه الوحشية المفرطة ، ومع منظر الدم ، واستسهال رؤية إهانة الإنسان.
سأعود الى الماضي القريب حين بدأت بعض الفضائيات العربية بالتحديد في استسهال بث مشاهد تحوي اشلاء ودماء وجماجم مفتوحة ، لضحايا القمع والطغيان ، سواء على أرض فلسطين أو ليبيا أو سوريا، تحت ذريعة "دع العالم يرى.." ، ولم تكن تدرك ، أو ربما تدرك .. ، أنها تقوم في نفس الوقت بقتل إحساس المشاهد بإنسانيته ، وتعوده بشكل شبه يومي على تلك المشاهد ، لدرجة أن المشاهد قد وصل الى مرحلة اللامبالاة ، وفقد خاصية رد الفعل الرافض للواقع الرديء، بحيث فقدت تلك المشاهد دورها التحريضي ، وانتقلت الى مرحلة التطبيع مع الواقع السيء.
أعود الى قنوات ما تسمى "المصارعة" ، فلقد آثر ملاك هذه المحطات تسويق منتوج انحطت قيمته التربوية أو الأخلاقية ، بهدف الإثراء من بيع الإعلانات التي تمتاز بالرخص ايضاً، والأعمق دلالة على ذلك هو نمط الإعلانات التي تبث في الفواصل ، والتي تتركز على مقويات الفحولة ، المتعددة الأشكال .. ، في رسالة واضحة ومركزة تخلو من البراءة ، لجمهور محدد ومستهدف. ناهيك عن قيام المعلقين على مجريات "المباريات" الإجرامية ، بالتعليق بلغة عربية غارقة في الإسفاف والهبوط.
وفي ظل انتشار اجهزة العرض التلفزيونية في المقاهي والمجالس العامة ، لوحظ ميل لدى مشغلي هذه الشاشات الى عرض قنوات المصارعة المذكورة على أساس أنها قنوات تسلية ، ولم يخطر ببالهم أنهم يسهمون في رفع وتيرة الشحن النفسي والعصبي بشكل جماعي لجمهور تلك المقاهي على اختلاف أجيالهم.
لست من الداعين أبداً الى مقاطعة الغرب وثقافته ، ولكني من الداعين الى الأخذ بما هو مفيد ، وترك ما هو ضار ، ولا يختلف اثنان من العقلاء ، بأن ما وصفته أعلاه ، يقع في باب نقل ما هو ضار. لنلق نظرة على القنوات الأمريكية التي تنتج هذا النوع من "الإجرام" ، فنجدها تعرض هذه البرامج في أوقات متأخرة من الليل مع وجود إشارة تحذيرية على أحد جوانب الشاشة ، تفيد بوجود محتوى عنيف، مما يعطي المشاهد أو ولي الأمر تحذيراً مسبقاً لكي يتخذ قراراً باستمرار المشاهدة أو تغيير القناة. فهل هذا النهج قد أتى من فراغ ، أم لأن تلك المحطات ، رغم ارتفاع سقف الحرية الى اقصى درجة ، تتحمل مسؤولية اجتماعية تلزمها بالحد من العنف عند جيل المراهقين ، وهم الأكثر تأثراً بهذا المحتوى العنيف.
كم مرة سمعنا عن مراهق في أمريكا ، قتل نصف عدد طلاب صفه بسلاح أوتوماتيكي ، نتيجة تأثره بمشاهدة شاهدها على الشاشة ورغب في تقليدها!! الكثير منا قرأ أو سمع عن ذلك عشرات المرات. رغم أنني ذكرت أن محطات التلفزة الغربية تحاول حجب هذا المحتوى العنيف بعدة وسائل. فما بالنا نحن نستورد هذا المحتوى بشكل مكثف ودون حجب أو تحذير، وعلى امتداد أربع وعشرين ساعة ؟!
المضحك المبكي أنك إذا مررت بباب أحدى المدارس ظهراً ، وجدت بعض الطلبة يقومون بتقليد بعض حركات المصارعين ، ويتندرون بما شاهدوه في الليلة السابقة ، ويتسابقون بحفظ أسماء المصارعين الذين يعتبرونهم مثلهم الأعلى ، ويحفظون أسماء الحركات والوثبات ، كما لا يحفظون دروسهم وأسماء شهدائهم أو حتى حدود بلادهم !! في حين ضيعت فصائلنا وقياداتنا ست سنين عجاف في المناكفة المقيتة ، ومن ثم أخيراً في تقاسم الكعكة الوهمية. وأوغلت في تحريض يد الكل على دم الكل ، وتركت هذا الجيل في مهب الريح.
في الخلاصة ، ولكي لا أفهم خطأً ، فأنا لست مع الرقابة المفروضة من قبل الأنظمة ، والتي تهدف الى قمع الحريات والرأي الآخر والتعددية ومحاربة الفساد ، مع ادراكي كذلك أن الرقابة هي عملية شبه مستحيلة في ظل انعدام الأدوات لفعل ذلك في هذا الفضاء المفتوح ، سواء الأدوات القانونية أو التقنية، في ظل هذا الجشع الذي يحمله ملاك هذه المحطات ، ودون مسؤولية اجتماعية ، ولكن هناك دور أبوي وأسري رقابي وتوعوي يجب عدم إلغائه ، بل تفعيله ، بهدف تحصين جيل عريض من المراهقين - وهم النسبة الأكبر من عدد السكان – من التبعية و الإنسياق نحو مسارات سلوكية لا يعرف مداها إلا الله ، وتبدأ بالعنف داخل الأسرة وتنتهي الى انفلات أمني وأخلاقي في الشارع.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء