اعلاميون فلسطينيون قدامى زاوجوا بين الوطني والمهني..بقلم:د. حسن عبد الله
قصة الصحافة في زمن الاحتلال، لم تأخذ حقها كما ينبغي من التأريخ والتوثيق والتحليل، رغم اننا شهدنا بعض محاولات التأريخ، التي لم ترتق الى تضحيات وابداعات الصحفيين الفلسطينيين القدامى، الذين رفعوا لواء هذه المهنة واسسوا لتجربة صحافية فريدة، حيث ان سلطات الاحتلال هي الجهة التي تسمح أو لا تسمح بترخيص الصحيفة، بيد ان المطلوب من الصحيفة بعد صدورها الاضطلاع بدور وطني اخباري وتحليلي وتعبوي، وهنا تكمن المفارقة. وبعد ان تسنى حسم النقاش فلسطينياً، حول جواز استصدار ترخيص حتى في ظل الاحتلال . لأن الأهم هو ما بعد صدور الصحيفة، بمعنى كيف يمكن لها ان تعمل في حقل الغام من الرقابة والملاحقة والمتابعة اليومية، لاسيما وأن مقص الرقيب كان يطال كل كلمة وصورة ورسم كاركاتوري، بل ويلاحق الدلالة والايحاء.
وطالما تعرضت صحف فلسطينية للاغلاق التام او المحدود زمنياً، نتيجة نشر خبر أو مقال بدعوى التحريض، أو ربما تم التذرع بالتمويل من جهات خارجية، والمقصود هنا منظمة التحرير، لأن هذه الصحف اقتربت من خط المنظمة وتناغمت وتكاملت معه لاحقاً.
وقد خبر العاملون في الصحف من محررين ومراسلين وفنيين أساليب الرقيب، ولجأوا الى الدراية والفطنة، ودراسة التوجهات الرقابية، واضطروا للسير في مهنتهم كمن يحاول تلمس طريقه بين نقاط المطر، لكي ينجو من البلل!!
وهناك صحفيون رياديون، قد لا يذكرهم اليوم جيل الاعلاميين العاملين في الفضائيات العربية، لأن المرحلة لم تعطهم حقهم. ولأن التجربة بمجملها لا تنصفهم، فمنهم من اعتزل المهنة بعد سنوات من الكد والتعب والعض على الاصابع. أو من رحلوا منهكين من الاعباء المتواصلة، وفي ظروف مجافية تماماً.
وبالرغم من الاعتقال او الاختفاء الفجائي كما حصل للبعض، او النفي الى خارج الوطن، او سحب ترخيص الصحيفة، فقد استطاع الصحفيون الطليعيون ان يؤسسوا لصحافة فلسطينية جمعت بابداع بين الوطني والمهني، مؤكدين ان الارادة هي كلمة السر في أي عمل مهني، مهما بلغ حجم الصعاب والمعوقات والتحديات، لتواكب الصحافة الفلسطينية في الوطن المحتل على مدى سنوات طوال، القضية الفلسطينية وتتفاعل معها، ملتحمة بهموم وتطلعات الجماهير الشعبية في كل المراحل، لدرجة ان اصدار العدد اليومي، بمثابة عملية صعبة ومعقدة، ارتقت الى المستويات النضالية العليا، بخاصة وان قارئاً فلسطينياً متعطشاً، كان ينتظر بفارغ الصبر في اليوم التالي جهد فريق متفانٍ منكر للذات.
ان نقابة الصحفيين والمؤسسات الاعلامية الاهلية والرسمية مطالبة اليوم بالتنبه لجيل الصحفيين المبادرين المضحين، وانصافهم على الاقل معنوياً، والعمل على تعريف الاجيال الجديدة بهذه التجربة، ظروفها، سماتها، اسهاماتها، بخاصة وان ما وصلنا اليه اليوم من تطور اعلامي على مستوى الصحيفة والموقع الالكتروني والمحطة الاذاعية والقنوات التلفزية المحلية والفضائية، لم ينطلق من فراغ، وانما استند الى اساس اعلامي تاريخي، ممهور بالدم والعرق والاعصاب والاحلام ومسابقة عقارب الساعةعملاً وانجازاً وابداعاً. ولا نبالغ اذا قلنا ، ان تجربة كل صحفي عمل في سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، تشكل مادة دسمة للتعلم واستخلاص العبر منها.
هناك صحفيون كتبوا بأسمائهم الصريحة ودفعوا الثمن، وآخرون استعملو اسماء مستعارة، لكنهم بعد سنوات ايضاً دفعوا الثمن، فالساحة صغيرة ومحدودة وكان ليس مستحيلاً على الاحتلال ان يتابع من يكتبون او يذيلون رسوماتهم الكاريكاتورية بأسماء مستعارة، كرسام الكاريكاتور المبدع خليل ابو عرفة، الذي اختار ان يوقع رسوماته بـ "غسان"، تيمناً واعجاباً بالشهيد غسان كنفاني.
واذا كان ابو عرفة يوقع اسمه الصريح الآن على ما يطل به علينا يومياً من خلال صحيفة القدس، فإنه احتاج الى وقت طويل من العمل والملاحقة والاعتقال، ليفرض اسمه الحقيقي، ويجعلنا نعجب بنتاجاته، حينما كان غسان، وحينما صار خليل ابو عرفة، فهو المبدع ذاته بفكره وقدرته الاستشرافية الاستثنائية في متابعته اليومية الحثيثة لقضايا شعبه. وابو عرفة ليس المثال الوحيد، فهناك امثلة أخرى لا يتسع المجال للاتيان بها، والتوقف مع اصحابها الرياديين كل على حده.
واذا كنت في هذه العجالة قد حاولت ان اسجل لفتة لصحفيينا المؤسسين في سنوات الاحتلال، فلا يفوتني التذكير بأن قصة الصحافة الفلسطينية مع القمع والملاحقة لم تبدأ تاريخياً من فترة الاحتلال الاسرائيلي، وانما تمتد جذورها للعثمانيين والبريطانيين، الا ان ما واجهه الصحفي الفلسطيني في الفترة المذكورة، هو اشد، وان ما قدمه هو اغنى وأعمق، لأنه كان يدافع عن قضية طالما احيكت ضدها المخططات الهادفة الى طمسها وتبديدها، لأن شعباً بلا هوية أو بهوية مشوهة، من السهل قيادته والسيطرة عليه.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء