سفر مؤقت إلى الأبد/ نجوان سمري دياب

20.09.2014 10:35 AM

مرّ وقت طويل منذ تحدثنا فيها آخر مرة، صديقتي الرقيقة، خطرت ببالي قبل أيام وإتصلتُ بها، فقالت مباشرة، نجوان علينا أن نلتقي… سننتقل للعيش في أميركا، لسنتين فقط.

حقًّا؟ ماذا؟ كيف؟ ولماذا؟

هكذا. تمامًا مثل صديقتي التي سافرت قبل خمس سنوات، قالت في حينها أنها ستترك البلد مع زوجها وطفلتهما لسنتين  وثم تعود، ولم تعد، وتمامًا مثل صديقتي الثالثة التي تنوي هي الأخرى أن تترك البلد مع زوجها وإبنتيهما.. وتقول لسنة واحدة فقط.

التقيت فيها بعد يومين، كانت هادئة كعادتها، صوتٌ منخفض، عيون حزينة، كلماتٌ سريعة جداً وكأنها تكرر حديثًا ما لا تريد أن تنحرف عن نصه، تستعمل يديها أثناء الحديث بكثرة، كمن تحتاج لصوت آخر يعينها على شرح قصتها مرة تلو الأخرى، تحدَثَت في البداية عن السنتين، وعن العودة الأكيدة بعد السنتين، تحدثت عن جواز السفر الأميركي والتأشيرة والبطاقة الخضراء، تحدثت عن عدم الانكسار وعدم الهروب، قالت إنها تريد لطفليها أن يعيشا الحياة الفلسطينية بالرغم من قساوتها على أرض فلسطين، ولذلك فإنها سوف تعود بعد سنتين.  قالت أيضًا أنها سوف تتحدث معهما باللغة العربية فقط… وبعد هذا الحديث صمتت قليلًا، وكنت أهز برأسي  فقط، أبحث عن الكلمات الصحيحة وبالكاد أجدها،  وقَفَت أمامي وقالت بلهجة مختلفة عن تلك التي تحدثت بها من قبل، بصوت مخنوق بالبكاء، مكسور، موجوع، قالت إن طفلتها الجميلة ابنة الست سنوات سألتها أثناء الحرب على غزة: "هل تعدينني أنني لن أُقتَل؟"، وأن إبنها الصغير حديث الكلام سأَلها قبل أيام: "متى سيصبح بابا مثلنا؟”.

بالكاد سمعتُ ما قالَته، كان صوت الدموع أعلى. وإستمرت بالقول: أين أخفقتُ في تربية أولادي فهم لا يشعرون بالأمان، كيف لا نستطيع أن نحمي أولادنا؟ لقد فعلتُ كل شيء كي لا تعرف إبنتي عمّا حدث في القدس وعن الحرب في غزة،  ولم أفعل أي شئ يدل على أن زوجي مختلف، كيف مختلف، ماذا أجيبهم؟ كيف أجيبهم؟

إن والد هذين الطفلين هو زوج صديقتي وهو صديقنا أيضاً، شاب وسيم وذكي ورث لونه الأشقر وجواز سفر أميركي من والدته، وورث الهوية الفلسطينية الخضراء من والده الفلسطيني، صديقتي الفلسطينية أيضًا تحمل الهوية الزرقاء وجواز سفر إسرائيلي، مثلي، ورثناه عن الإحتلال.

قبل عشر سنوات قررا الزواج، هكذا ببساطة، أحبها كثيرًا وأحبته كثيرًا، فقررا تمامًا مثل كل الذين يقررون الزواج في العالم، أن يتزوجا.

لا يمنحهما الاحتلال في هذه الحالة حق إختيار السكن، فإما أن يسكنا في الضفة الغربية فتخسر هي حقوقها والهوية التي تمكّنها من بقائها على أرضها، أو يسكنان في منطقة يحمل سكانها الهوية الزرقاء لكن وراء الحاجز الفاصل بين القدس ورام الله، أو أن يسكن كل منهما في منطقته!

إختار أصدقائي العيش حيث المكان الواحد الذي تسمح قوانين الإحتلال لهما أن يعيشا به معًا بأقل الخسائر، سكنا في تلك المنطقة الحدودية بين القدس ورام الله، بين الأزرق والأخضر، بين أوسلو وقلنديا، بين فلسطين وفلسطين.

أنجبا ابنةً وابنًا واختارا لهما اسمين جميلين. ورِثا اللون الأشقر عن والدهما وجواز سفر إسرائيلي عن الاحتلال.

تسمح إسرائيل بموجب قانون عودة اليهود لمّ شمل فوري لعائلاتهم من شتى أنحاء العالم، ولا تسمح للفلسطينين حملة الجنسية الإسرائيلية من لمّ شمل عائلاتهم فيما لو تزوجوا مع فلسطينيين من الضفة الغربية أو غزة أو من شخص يحمل جنسية الدول المعادية لإسرائيل، حسب إسرائيل.

خلال حديثها عن ترتيبات السفر كدت أسألها، ما هذه الحساسية المفرطة؟ لا تتعجلي فلا أحد فينا يستطيع أن يعد أطفاله وعدًا صادقًا أنهم لن يموتوا؟ حتى هؤلاء في أميركا لا يستطيعون. صحيح تذكرت تذكرت، لقد كان السؤال هل تعدينني بأنني لن أُقتَل وليس هل تعدينني أنني لن أموت! وكيف لكِ أن تَعِديها بذلك يا صديقة القدس وفي كل زاوية هنا جنديٌ وبندقية ومستوطن هائج قد يقتلونا.. ويقتلونا، فربما معك حق.

ولكن تمهّلي قليلًا يا صديقتي، لماذا لا تقولين لطفلك أن بابا مثلنا ولا يختلف؟ هكذا ببساطة وبلا شرح وتفاصيل وحساسية ودلع،  فماذا يعني أنكم لا تستطيعون كعائلة واحدة أن تسكنوا معًا حيثما تريدون؟ أقصد في القدس، وماذا يعني أن تدور حياتكم حول الإثبات يوميًا للاحتلال بأنكم أحياء ترزقون ومتزوجون وتسكنون في البيت الذي اختاره لكم الاحتلال وبأنكم تدفعون الضرائب كي تعيشون؟ سويةً؟  وماذا يعني أن تترقبوا وصول موظف التأمين الوطني أو البلدية لفحص هذه الحقائق في كل لحظة؟ في كل ساعة؟ في كل يوم؟ وماذا يعني أنكم لا تستطيعون السفر من مكان واحد، فها أنت والأولاد تسافرون من مكان وزوجك من مكان آخر وثم تلتقون في بلد آخر وبعدها يبدأ سفركم من جديد للبلد الآخر الذي تريدونه، فأين هي المشكلة؟ وماذا يعني أن زوجك لا يمكنه أن يقود السيارة؟ أبدًا؟ وماذا يعني أنك أضطررت لتوصيل نفسك المتألمّة إلى المستشفى مرتين للولادة؟ وماذا يعني ألّا تستطيعا الذهاب سوية لوجبة غداء عند الأهل في الجليل؟ ولماذا يزعجك هذا القلق عندما تدخلان سوية إلى القدس في فترة اللا تصريح؟ وماذا يعني أن هناك حواجز لا يستطيع البابا أن يمر من خلالها حتى في فترة التصريح؟  وماذا يعني الإنتظار الطويل يوميًا على الحاجز المسموح للبابا العبور منه؟ وماذا يعني أن يسألك طفلك الصغير "متى سيصبح بابا مثلنا"؟ لماذا لا تشرحين له؟ لا لا تشرحي له، ما زال صغيرًا جدًا، وربما معك حق أيضًا.

إرحلي فقط. هذا ما قلته لها. ولم أسألها أيًّا من تلك الأسئلة، إستمعت إليها فقط، وكان أسلوب حياتهما يمرّ من أمامي في شريط سريع، نحن لا ندقق في تفاصيل الحياة اليومية، وأنا لم أشعر بمعاناتها من قبل، ولكني تذكرت أنه قبل فترة وجيزة سُحبت رخصة القيادة من زوجي لأشهر محدودة، ولم أحتمل هذه الفترة أبدًا، حاولت أن أضع نفسي مكانها لبعض الوقت، لا لم أحتمل.

لم أشأ أن أعذبها أكثر ورددت أمامها عبارات بائسة:  هذا قرار سليم، لقد حان الوقت، كلامك صحيح، ستمر هذه الفترة بسرعة، وستعودون بسرعة.

ولكني أردت أن أقول لها لا ترحلي، سأشتاق إليك كثيرًا، وأردت أن أقول لها أن هذه الفترة لن تمر بسرعة، ربما نعم فترة ترتيب جوازات السفر الأميركية، ولكن فترة لمّ شمل العائلة الفلسطينية… فلن تمر بسرعة، لن تمر، لن تعودوا، لا ترحلي.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير