"عروسان في الثلج" عروسان يتصببان عرقا في ساحة المجلس التشريعي.. د.حسن عبد الله

07.09.2014 03:26 PM

كنا نقبع في شهر كانون الثاني من العام 1992 في معتقل الخليل، وكانت الإنتفاضة الأولى توشك على الانتهاء ، بعد أن لاحت في الأفق اتفاقات أوسلو ، حين بدأ المفاوضون يكتبون مسودات فصولها.

وكان صدر ضدنا "أمر" الإبعاد عن الوطن، هذا " الأمر" الذي الغي بعد تسعة شهور من صدوره ليتم تحويلنا الى الاعتقال الاداري.
وامام مستقبل فردي ضبابي لكل واحد من المشمولين بالأمر، فإن سؤالاً مصيريا انتصب في الاذهان بشكل ملح:

كيف يمكننا أن نتأقلم في الخارج ، في حياة نجهل ظروفها وتفاصيلها؟

كنا نحتجز وقتذاك في غرفة في المعتقل المذكور ، أطلق عليها المعتقلون "غرفة المبعدين". وفي زاوية الغرفة اخترت السرير العلوي مفضلا مكانا يوفر لي عزلة نسبية، لكي أمارس الكتابة التي كانت بالنسبة اليّ وسيلة لانتاج نصوص أدبية تعبر عن التجربة ، وتوثق جوانب المعاناة . واختار صديقي غسان جرار السرير الأرضي ، اي تحت سريري مباشرة .

وما كنت  انتهي من كتابة نصّ معين حتى أهبط إلى سرير صديقي ، الذي لعب دور الناقد الأول لما كتبت وانتجت في تلك المرحلة.وبالرغم من أن صديقي لم يمارس الكتابة الأدبية في الاعتقال، الا أنه قد قرأ عشرات القصص والروايات والنصوص المسرحية وتذوقها وطوّر بذلك حسه الادبي ، وارتقى بذائقته، ما جعلني اثق بارائه واقتراحاته.

كان يقرأ النصوص بامعان ، يمحصها بعين القارئ المثقف المجرِّب القادر على الغوص بدراية في أدق التفاصيل والايحاءات والدلالات. لقد نشأت بيننا صداقة أدبية وثقافية حميمية وأستمرت سنوات طوالا بعد التحرر ، وحتى هذه اللحظة فإن آراءه النقدية تعنيني أكثر من أي ناقد محترف، ربما لخصوصية الظرف الذي ولدت وتطورت فيه هذه العلاقة، أو لأن صديقي أصبح على معرفة دقيقة بمفاتيح قلمي أو الأصح مفاتيح شخصيتي الانسانية.

لم يكن غسان يمارس كتابة القصة، غير انه كان متحدثاً يارعا، يتقن فن القص الكلامي، ويبرع حديثا حينما يطلق العنان لقَصِه، فيشد المستمعين ويمتعهم ، وهم يتابعون بشغف احدى قصصه التي كان يطعمها بمخزون خصب من الأمثال الشعبية والشعر، ويخرجها بنبرات صوت ترتفع وتنخفض، ولغة جسد تشي بالمام بفن التمثيل، اما عن قدرته في الانتقال من سرد المواقف الحزينة الى الكوميدية فحدث ولا حرج.

في احدى الليالي البادرة من شهر كانون تحوط معتقلو الغرفة غسان، وهو يروي قصة اعتقاله ، كما كنا صغارا نصغي بحب لجدتنا في ليالي الشتاء، وهي تقص علينا قصة "جبينة" ، او "الشاطر حسن"  تسلينا وتمتعنا قبل الخلود للنوم، في ظل غياب التلفاز او المسليات الاخرى.

كانت قصة اعتقال غسان باحداثها وفصولها مثيرة ولا تحتاج متابعتها الى قاص بارع، فكيف اذا توافر هذا القاص، واي قاص. انه بطل القصة!
انهى غسان قصته، لتبدأ قصتي أنا. نام القاص البطل، واستيقظ الكاتب داخلي.  التقطت قلمي وبدأت أكتب مستعينا ببعض الضوء المتسلل من أسفل الباب الحديدي ومن النافذة.

كتبت الصفحة الأولى والثانية والثالثة، لأخضع بعد ذلك لحمى الكتابة حتى الصباح،لم استطع الانفكاك من رغبة جامحة استحوذتني.
وبعد العد الصباحي ، فاجأت غسان بقصتي"عروسان في الثلج"، فرح بها، أحبها، ثم استمعت باصغاء لملاحظاته التي اغنت وعمقت النص.
وأعترف انني لم انجح حتى اللحظة في كتابة قصة بمستوى حميميتها وانسيابها وتدفقها العاطفي واللغوي ، رغم اعتزازاتي يمجموعات قصصية أصدرتها لاحقاً "منمذكرات زيتونة" و "رام الله تصطاد الغيم". القصة المذكورة ما زالت الأكثر حضورا لمن قرأ لي وتابعتي، رغم أن قلمي الان وبعد مرور ربع قرن من الزمن هو أنضج، إستنادا إلى تفرغي التام للكتابة والبحث وتنوع تجربتي في عديد المسارات والميادين.

اجل فـ "عروسان في الثلج". ما انفكت تحتفظ بالمكانة الأفضل بين ما انتجت. لان البعد الذي حملها والدماء التي جرت في شرايين النص، كانت انسانية بامتياز، فغسان الذي اعتقل، بينما الثلج غطى شوارع رام الله واسواقها ومنازلها، ليشكّل مصدر معاناة صديقي، الذي قيدوه واجلسوه على أرض مجنزرة أخذت تخب الثلج والمياه وصولا الى معتقل الظاهرية، قبل ان ينقل لاحقا الى معتقل الخليل.
تنقلت صور واحداث القصة بين قساوة الثلج وجمال مدينة رام الله الملتحمة جسديا وروحيا بعريسها القادم من السماء، وبين غسان المعتقل وزوجته خالدة التي كانت تشجعه بنظراتها، تحثه على الثبات والصبر، حيث استمريسترجع كلام عيني زوجته طيلة محطات رحلة العذاب .

ومن اين لغسان في ذلك اليوم ان يتوقع ذهنيا ، وان يقرأ حدسيا وزمنيا، انه بعد ما يقارب ربع قرن، سيقف في ساحة المجلس التشريعي، يحرس زوجته خالدة بنظراته، ويرد دينا قديما لها، يشجعها، يقويها، يدعمها، بعد ان صدر ضدها أمر الإبعاد الى أريحا؟!
تغيرت وتعددت الاهتمامات، صارت لقاءاتنا متباعدة، احيانا نلتقي مرة أو مرتين في العام، فقد انصرفت للعمل الاعلامي والكتابي والبحثي، وصار غسان رجل اعمال ناجح يفهم السوق، ويعرف كيف يتعامل مع مقاييس ومتطلبات التجارة والعملية الانتاجية من موقع المثقف الذي يحدثك بلغة الاقتصاد والتنمية والصناعة الوطنية، لكن الطريف انه عندما يتحدث اليك عن الاقتصاد ما زال قادرا على أيصال افكاره باسلوب القاص، حيث يتداخل الاقتصاد بالقضايا الاجتماعية والمواقف والتوجهات في مزيج محبب الى النفس.

غسان ينزرع الى جانب خالدة تحت أشعة الشمس اللهابة كما انزرعت الى جانبه في ثلج كانون، فقد أخذ اجازه من التجارة والصناعة والسوق، مقررا ان الحياة دين حتى بين الازواج الأحبة، يسافر بذاكرته بين ثلج رام الله في الشتاء وبين حرارتها في الصيف، وهو يتصبب عرقا، ويداه تصافحان وفود المتضامنين المؤازرين.

غسان  وخالدة عروسان في الثلج وعروسان تحت حرارة صيف استثنائي ، فقد قيل ان التاريخ يعيد نفسه على شكل ملهاة ومأساة، بيد انه يعيد نفسه هذه المرة بطعم ولون المأساة ذاتها " الابعاد" وان تغيرت جغرافيته.

عروسان كانا وما زالا، ويافا الطفلة الصغيرة التي حلمت في القصة بتمثال من ثلج وهي في الخامسة من العمر ، تمتطي اليوم جناحي حلمها وهي استاذه جامعية تحاضر في احدى جامعات كندا، فقد كبر تمثال الثلج ارتفع وامتد في واقعها وخيالها، وصار بحجم وطن.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير